مفهوم الإدراك
د. بليل عبدالكريم

هو عبارة عن تمثل حقيقة الشيء عند المدرِك؛ يشاهد بها ما به يدرك، فهو عبارة عن كمال حاصل في النفس؛ يحدث منه مزيد كشف على ما يحصل في النفس من الشيء المعلوم من جهة التعقل بالبرهان أو الخبر، وهذا الكمال الزائد على ما حصل في النفس بكل واحدة من الحواس هو المسمى إدراكاً. ثم هذه الإدراكات ليست بخروج شيء من الآلة المدركة إلى الشيء المدرَك؛ ولا بانطباع صورة المدرك فيها، وإنما هي معنى يخلقه الله تعالى في تلك النفس المدركة أي "معنى قائم بالعالم"

وطور الإدراك هو طور بعد الإحساس، يتزايد ويتناقص بقدر تفاوت قدرات الناس، وأول أطوار الإدراك التمييز وهو مراتب؛ وفيه يدرك أموراً زائدة على الإحساس، لم تكن حصلت له من قبل، ثم يترقى إلى طور يدرك به الواجب والجائز، والمستحيل والممكن، وأن حكم الشيء حكم مثله، والضدان لا يجتمعان، والنقيضان إذا صدق أحدهما كذب الآخر، ونحو ذلك من أوائل الضروريات، ثم يترقى إلى طور آخر يستنبط فيه العلوم النظرية؛ من تلك الضرورية التي تقدم علمه بها، ثم يترقى في هذا الطور من أمر إلى أمر فوقه وأغمض منه، نسبة ما قبله إليه كنسبة الحس إلى العقل، ثم وراء ذلك كله طور آخر؛ نسبة ما قبله إليه كنسبة أطوار الإنسان إلى طور العقل أو دون هذه النسبة، فينفتح فيه عين يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل وأمور" العقل معزولة عنها كعزل الحس عن مدركات العقل، وهذا هو طور النبوة"[2] .

والإدراك على معنيين؛ الأول: وهو مرتبة من مراتب العلم؛ أي وصول مثال المعلوم إلى النفس المدركة، والمعنى الثاني: هو مطلق الإدراك أي كل عمليات وصول العلم ومراتبه. فالأول هو الإدراك المطلق وقد شرح في بداية المطلب، والثاني هو مطلق الإدراك؛ وهذا يمثل ما نعبر عنه بالقوة العالمة أو العارفة في الإنسان. ولوصول العلم في الإنسان مراتب فصلناها سابقا نكرر ذكرها من الأدنى إلى الأعلى وهي:

أولها الإحساس ثم: الشعور، الإدراك، الحفظ، التذكر، الذكر، الفهم، الفقه، الدراية، اليقين، الذهن، الفكر، الحدس، الذكاء، الفطنة، الكيس، الرأي، التبين، الاستبصار، الإحاطة، الظن، ثم العقل.

ويعبر عنها في مراجع كثيرة بالعمليات التفكيرية، أو الإدراك العقلي أو العقل، وننبه إلى أن البعض يجعل العقل هو محل الإدراك؛ ومراتب الإدراك هي قوى العقل، وهذا خلل في الاصطلاح خاصة في حال دراسة نظرية المعرفة. فمن المعلوم عند أهل الاختصاص في المعرفة أن العقل قوة إدراكية والمراتب الأخرى قوى إدراكية مثله؛ فليس هو محل لها، فإذا كان هو محل لها فأين محله؟ خاصة مع إقرارهم بأنه صفة قائمة بعين، وليس بذات قائمة بنفسها.

ولكن إذا سايرناهم في بعض ذلك يمكن اعتبار القوى الإدراكية قوى عقلية؛ وهو الجاري مع علماء الإسلام، لكن بالاعتبار الذي سقناه حول الإدراك، أي أن مطلق العقل هو كل القوى الإدراكية ومراتب وصول العلم، والعقل المطلق هو أعلى مراتبها.

هنا السؤال هل العقل جوهر، كما يلاحظ في التعامل مع مفرداته في كثير من الكتب؟ أم هو عرض قائم بجوهر؟ وهل هو قوة لها عمليات؛ هي مراتب وصول العلم؛ وهذه القوة تزيد وتنقص؟ أم هو عملية إدراكية من إحدى عمليات النفس المدركة حال إدراكها؛ فيكون مرتبة من مراتب وصول العلم إلى النفس؟

 

نحاول استقصاء ذلك باستقراء آيات القرآن الكريم، وسيكون أول البحث حول مقر النفس المدركة ومحل الإدراك.

الفرع الأول: محل الإدراك:

صرح الكثير من العلماء والفقهاء والباحثين أن الحواس آلات لإدراك الجزئيات، أما "المدرك فهو النفس"[3]. وهذا مبني على تقسيم الإنسان من حيث الخلق إلى مادة وروح، فالمادة قطعاً هي ما يركب الأعضاء كلها، أما الإدراك فهو خاص بالنفس والروح، بدليل أن الجثث لا تدرك شيئاً.

وعبر عن محل الإدراك الكثير، منهم أبو حامد الغزالي "باللطيفة الروحانية"[4] التي لا يعلم بحقيقتها أحد غيره تعالى، وهي جزء من عالم الغيب، دورها تلقي العلوم وحفظها والنظر فيها للاستنباط منها، فإذا تتبعنا آيات القرآن وجدنا أن المحل الذي وصف بالإدراك ونسبت له عمليات إدراكية هو (القلب) "ووفق هذا المعنى فإن القلب في نظر القرآن أداة من أدواة المعرفة، حيث يعتمد على مخاطبة العقل في معظم رسالاته"[5].

فقلب كل شيء خالصه، وهو أعظم شيء موصوف بالسعة وهو معدن الروح الحيواني المتعلق بالنفس الإنساني، ويسميه البعض بالنفس الناطقة والروح الباطن، والقلب هو محل اللطيفة الروحانية المدركة.

وهذا قول كبار الأئمة والعلماء وأهل التفسير، وأهل الحديث وأهل اللغة، وسنورد بعضاً من أقوالهم في أن محل الإدراك والتفكير والعقل في القلب؛ وهذا بعد القرآن والسنة:

• قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ﴾ [الحج: 46].

• في الصحيحين: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب" قال الحافظ ابن حجر: يستدل من الحديث على أن العقل في القلب[6].

• قال ابن تيمية: "أصل الإرادة في القلب، والمريد لا يكون إلا بعد تصور المراد؛ فلا بد أن يكون القلب متصورًا".

• وقيل لاِبن عباس رضي الله عنهما: بماذا نلت العلم ؟ قال:" بلسان سؤول، وقلب عقول"[7].

• قال الرازي: وعند قوم أن محل التفكير هو الدماغ، فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر[8].

وقال عن القلب: في الأصل اسم للقلب الذي هو محل العقل[9].

• وقال ابن القيم عن القلب: ولهذا كان الرأي الصحيح أنه أول الأعضاء تكويناً، ولا ريب أن مبدأ القوة العاقلة منه[10].

• قال القرطبي في تفسيره الآية (الحج/46): أضاف العقل إلى القلب لأنه محله، كما أن السمع محله الأذن[11]. وهذا قول الطبري[12] وابن كثير[13] وصديق خان[14] والطاهر ابن عاشور[15]، والبيضاوي[16]، والطباطبائي[17]، بل هو عند جمهور أهل التفسير قولاً واحداً.


وهذا قول جمهور العلماء من المفسرين وأهل اللغة وأهل الكلام والأصول، وهو ظاهر النصوص الواردة في القرآن الكريم، وهو كلام علي رضي الله عنه وأبي هريرة وكعب بن مالك رضي الله عنهم أجمعين[18].

فالقلب هو محل العلم والعقل والفكر والإدراك، أما كون ما يحصل في النفس "علماً" فلا إشكال، فهنا عندنا محل العلم هو القلب، وهو الموضوع المعلوم.

وانتقال مثال أو صورة أو حقيقة الموضوع المعلوم إلى محل العلم يكون في الماديات بالإحساس، لكن إدراك حقيقته أو صورته بما يتم؛ أي ما هي القوة المدركة في القلب هل هي العقل؟ لم يرد قط في القرآن بصيغة المصدر، بل بصيغة الفعل مما يثبت أنه عرض؛ أي صفة قائمة بذات وهي جوهره، وهذه الذات هي القلب.

ووصف القلب بأنه يعقل ويتدبر ويتفكر وينظر ويبصر ويسمع، فهل كل هذه قوى إدراكية أم عمليات لقوى أخرى ؟ مثلاً عندنا عملية التذكر قوتها الذاكرة، وعندنا العقل وهو القوة العاقلة والعملية هي التعقل.

إذا رجعنا إلى القرآن الكريم لا نجد أوصاف القلب الإدراكية إلا بصيغ الفعل، فإن قلنا بما جرت عليه العادة أن العقل هو قوة الإدراك الكامنة بالقلب؛ أي هو العاقل المفكر المتدبر، فهل الذاكرة والحافظة والذكاء من العقل؟ أم هي قوى أخرى خارج عنه؛ لا منه؟

لكي نفهم المسألة نرجع لتعريف "العلم" الذي أقررنا بأن محله "القلب" - وهنا لا نفرق بين العلم والمعرفة والإدراك، إذ المراد مطلق ذلك كله -  يطلق على ثلاثة معان بالإشتراك[19]:

أحدها: يطلق على نفس الإدراك.

ثانيها: على الملكة المسماة بالعقل في الحقيقة. وهذا بإعتبار أنه سبب للإدراك، فيكون من إطلاق السبب على المسبب.

ثالثها: على نفس المعلومات.

أما تعريف العقل فكان: القوة المهيأة، والملكة الحافظة والمستحضرة للمعلومات.

فهو بمعنى قوة خاصة لها علميات خاصة، تتكامل مع غيرها لكن تفارقها. وبمعنى يطلق على جميع النشاطات الإدراكية والفكرية.

الفرع الثاني: مفهوم القوة المدركة:

في القرآن الكريم ورد أن القوة المدركة هي القلب؛ أي اللطيفة الروحانية، ومن عملياتها التعقل والتدبر والتفكر والنظر، وكلها موجودة في القلب الجسمي.

لذا نجد العلماء يعرفون العقل بأنه: القوة المتهيئة لقبول العلم، ويُطلق على العلم الذي يستفيده الإنسان عن طريق العقل "عقل"[20]، ومن معاني القلب العقل، والقلب الجسماني يحوي اللطيفة الربانية الروحانية؛ وهي حقيقة الإنسان، وهو العالم العارف من الإنسان وهو المخاطب والمعاقب والمعاتب والمطالب[21].

فيكون القلب الروحاني هو العقل، واللطيفة الربانية المدرك العالمة العارفة هي العقل، أي أن القلب يحوي العقل؛ قوة الإدراك والتمييز والمحاسبة والمعاتبة والمنع والإذن. والقلب يحوي الفكر والإدراك والذاكرة. غير أن التعقل جوهر الإدراك وأعلى مراتب وصول العلم، وهو ذو خصائص قضائية وعنه تصدر الأوامر التنفيذية من رئيس الجسم (القلب) نحو جنوده، فأطلق فعله ومصدره على العملية الإدراكية كلها، و إلا فهو واحد من قوى إدراكية بالقلب.

وللعقل القوة العاقلة عمليات في استقبال المعلومات، وحفظها، واسترجاعها، وهي مراتب وصول العلم إلى النفس المدركة. هذا بإعتبار خلاصة البحث والإدراك وهو آخر مرحلة قبل إصدار القرار بالفعل أو الترك، فهو المانع والمجيز.

والفكر مثل العقل، وكذا النظر والبصيرة، غير أن كل واحد أطلق باعتبار؛ وإن كان الكل يدل على شيء واحد وهو النور الرباني الروحاني المدرك بالقلب.

فالقرآن ذكر فعل العقل بصيغة "تعقلون، يعقلون، نعقل"، والفعل لابد له من فاعل وهو محل التعقل، وقد نص على أنه القلب؛ فكان القلب هو المتعقل والعاقل والمفكر والناظر والبصير. وهذه كلها عبارة عن قوى الإدراك والعلم، وهذه القوى لها أفعال إدراكية؛ سميت بحسب طرق تحصيل العلم في النفس، فنجد أن تعريف الفكر هو: قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر جولان تلك القوة[22]. والنظر: عبارة عن حركة القلب لطلب علم من علم[23].

فالقوة المدركة واحدة ولها حركات أو أفعال، وبحسب حركاته يتسمى الفعل؛ وذاك مرتب على العلاقة بين المعلوم؛ وما ينتج عنه؛ وطرق البحث فيه. فسميت بالنظر لوجه أن العلم يحصل بعد تروٍ وانتظار، وفكر لأن العلم يحصل بعد فرك للمعلومات، وبصيرة لأنها يقين لدرجة الإبصار والمعاينة؛ أي تبصر ما غاب عن الحواس، وسميت إدراكاً لأنها تلحق بالمطلوب وتدركه؛ أي تصل إليه. من خلال الإطلاع على الكثير من المراجع؛ تواردت مصطلحات معرفية حاولنا ضبطها لفهم العمليات المعرفية، فقد أطلق على القلب بأن فيه لطيفة ونوراً وقوة وغريزة وملكة وهيئة واستعداداً وطاقة وقدرة.

• ورد في محل العلم: بأن النفس والقلب والفؤاد واللب والروح هي محل الإدراك.

• أما الإدراك؛ أي مطلق الإدراك فكان هو الإدراك والعلم والعقل والفكر والتمييز والتصور.

• وانتقال المعلوم إلى محل العلم: نشاط عقلي، عمليات فكرية، وظائف، أعمال قلبية، أفعال قلبية.

ولكي تتضح الصورة لابد من تحديد المصطلحات أكثر، وذاك لشدة التداخل المعجمي بينها، غير أن لكل واحد استعمالاً يتميز بمراعاة صفات ومعاني زائدة عن غيرها، ولأن بعضها قد بُيِن قبلاً، فسنحاول جمعها وبيان بعض الفروق: قولهم القلب مع إرادة الجانب الروحاني فيه، غالب من عرفه لم يخرج عن كونه هو المدرك.

فالقلب اللطيفة الروحانية العالمة المدركة، هي النفس المدركة والروح العالمة وهي الفؤاد واللب والحجر والنهى والبصيرة. وهذا كله يمثل محل مطلق الإدراك، ولمحل الإدراك أسماء أخرى وهي الذهن والنفس، فيكون  القلب هو الذهن وهو النفس بمعنى واحد، إلا أن النفس سميت بذلك لكونها متصرفة أي فاعلة، والذهن لكونه مستعداً للإدراك.

أما العقل فعرف على أنه قوة متهيئة لقبول العلم، وللعلم المستفاد بتلك القوة. والفهم: هو هيئة تتحقق بها معاني الخطاب.

فالحاصل أن هنالك معلوماً يُتصل به بالحواس إن كان خارجياً، وبقوى إدراكية إن كان داخلياً؛ وهي قوى استرجاع ما كان محفوظاً ومخزناً، ثم أفعال تستنبط مما هو مخزن، وأخرى تعي وتستوعب، وهي تلي الإحساس مثل الشعور والإدراك والفهم. بعدها يكون التخزين، بعدها الفحص والبحث للإنتاج، فتنشأ علوم زائدة عما نقل عبر الحواس من أخبار أو إحساس مباشر. بعدها تطبيق تلك العلوم وضبطها، وهذه خلاصة وصول العلم وهي العقل كما بينا في مراتب العلم.

في تعاريف المصطلحات المعرفية كانت هنالك ألفاظ لافتة؛ وهي القابلية والاستعداد والقوة والهيئة والوظيفة.

ما خلص من هذا البحث في تلك المفاهيم هو كالآتي:

1- هنالك "محل" للعلم والمعرفة: هذا المحل له قابلية للإدراك واستيعاب العلوم والمعلومات، وهذه القابلية هي استعداده وتهيؤه لذلك فسمي المحل (ذهنا). وهذا المحل هو الوسيلة والأداة والآلة ومحل الفاعل، ولها متعلق بالجارحة وهي القلب بطبقاته من فؤاد ولب وصدر.

 

2- المحل فيه "قوة": وهي الملكة والغريزة، وهي المتهيئة للفعل والعمل والنشاط والحركة، تصدر عنها صفات ذاتية فعندنا (فاعل)، و(مفعول)، والعلاقة بينها حال وقوعها تسمى (فعل)، وكيما يقع (الفعل) من (الفاعل) على (المفعول به) يلزم قوة. وهي كامنة في (الفاعل) المستعد للفعل ولكن لا يوجد  فعله بعد.

و"القوة"؛ هي كون الشيء مستعداً لأن يوجد أو لا يوجد، هذه القوة هي العقل والفكر والفهم والنظر والفطنة.

و"الفعل"؛ كون الشيء خارجاً من الاستعداد إلى الوجود.

ولنفرق بينهما نضرب مثالاً، قال الجرجاني عن العقل: هو قوة للنفس الناطقة، والقوة العاقلة غير النفس الناطقة، والفاعل في التحقيق هو النفس[24]. وقيل سميت النفس عقلاً لكونها مدركة، وذهناً لكونها مستعدة للإدراك[25].

فالنفس هي عقل بإعتبار "الفعل"، و هي ذهن بإعتبار"القوة"؛ أي القابلية الصادر منها ذلك الفعل.

في معجم دقائق اللغة: استعداد النفس لاكتساب العلم يسمى (ذهناً)، وقوة ذلك الاستعداد تسمى (فطنة)[26]. (والحافظة) هي القوة التي تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعاني، و(الذاكرة) هي القوة التي تستحضر المعاني التي وعتها (الحافظة)[27].

وفي تفسير ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾  [الأعراف: 179] قال أحد المفسرين: يراد بالقلوب هنا القوى الداخلية في الإنسان، المخلوقة للفهم وللحفظ وللتذكر، بتخزين صور الأشياء وقضايا المعرفة كلياتها وجزئياتها، ولتخيل صور ومركبات غير مشهودة، للإبداع والابتكار، ولإدراك المعاني والبحث عن حقائق الأشياء. وفي هذه القوى الداخلية المعرفية والإدراكية موازين فكرية؛ مؤهلة بالتكوين الرباني؛ الذي فطر الله عليه للتمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، ولقياس الأشباه والنظائر، والحكم على الغائب منها بمثل المشهود منها، وللاعتبار والاستدلال، والفهم والموازنة والحكم، حتى لا تسقط الإرادة فريسة الأهواء والشهوات[28].

فهذه "القوة" هي غريزة لصدور صفات ذاتية منها، وهي الملكة لاستحكامها؛ وإن لم تستحكم بعض القوى كانت عبارة عن "حالة"، وهذه القوة بها طاقة وقدرة على النشاط والحركة والعمل والفعل.

3- القوة تملك قدرة على "الفعل": فهي مهيئة للفعل والحركة والجولان والنشاط والعمل.

فنجد في المفردات تعريف الفكر: قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل[29]. "فالقوة" هي الفكر؛ و"فعلها" هو التفكر.

وفي تعاريف العقل أنه:

• قوة بها يعقل النفس عن شهواتها؛ أي يمنعها.

• يعقل العلوم، أي يحبسها بالنفس.

• تمييز بين القبح والحسن.

وخلص بعض الباحثين في القلب إلى القول: "يتضح أن التعقل عمل من أعمال القلب"[30]، بعد أن خلص في تعريف العقل على أنه: "أمر يقوم بالعاقل"؛ سواء كان غريزة أو صفة أو قوة.

فالعقل قوة، فعلها التعقل، بعد حصول التعقل يقال "عقل"، وهذه "هيئة" للعاقل، فلا يوصف بها إلا بعد حوث المثال بالنفس. فالمدرِك هو القلب الذي فيه يحل مثال حقائق الأشياء، والمدرَك يتمثل في حقائق الأشياء، والإدراك هو حصول المثال في المحل، فوصول مثال المدرك إلى القلب يسمى إدراكاً، وقد كانت الحقيقة موجودة، والقلب موجود، ولم يكن الإدراك حاصلاً، لأن الإدراك عبارة عن وصول الحقيقة إلى القلب. وهذا الحصول أو الوصول نسميه "الهيئة".

نخلص إلى جمع ما سلف: عندنا حول الإدراك: (الجارحة) "الآلة"؛ وهي القلب بمعناه المادي. ثم "المحل" (اللطيفة الربانية المدركة) وهو بالقلب، ثم "قابلية المحل" (الذهن) وهي استعداد النفس القادرة المدركة، ثم "القوة" لذلك الاستعداد؛ قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، ثم "الفعل" (التعقل، التفكر)، وهو نشاطات العقل، والعمليات الإدراكية، ومراتب وصول العلم، وحالة وصول العلم تسمى "هيئة" (عاقل، مفكر) وهي تحقق العلم وبالنفس، فالفاعل هو النفس وبالذات (القلب)، والقابلية للفعل (الذهن)، والقوة على الفعل (العقل)، والفعل (التعقل)، والمفعول به (المعقول)، والهيئة (العاقل) أي تحقق العلم بالنفس، وصارت متصفة به.

فتجمع لنا مصطلحات هي: الآلة، المحل، القابلية، القوة، الفعل، الهيئة. وهذه تمثل كيفية وصول العلم من الموضوع المدرَك إلى المحل المدرِك، - والله أعلم-.

الفرع الثالث: العمليات الإدراكية في القرآن الكريم:

نبحث هنا في قوى الإدراك وأفعالها، مع بيان الفروق فيما بينها في القرآن الكريم، ولأن ما ورد فيه كان بصيغة الفعل فقط؛ فالبحث في الأفعال أي النشاطات الإدراكية، أو أعمال القلب الإدراكية.

أ- التعقل: وهو وظيفة وفعل لقوة هي (العقل)، ولفظ "العقل" ليس له وجود في القرآن، وإنما يوجد ما تصرف منه نحو "يعقلون، وتعقلون"، كقوله تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الحديد: 17]، وقد ورد من مادته بصيغة الفعل في "49" موضعاً من القرآن الكريم، وأكثر ما ورد "أفلا تعقلون" في "13" موضعاً، بمعنى أليس لكم ذهن تفطنون به لقبائح أفعالكم وأقوالكم.

والعقل مصدر، وإن كان سيبويه[31] يعده صفة؛ لأن المصدر لا يأتي على وزن مفعول ألبتة. وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك؛ أي يحبسه[32].

ونتيجة لذكر القلب في القرآن بوصفه اسم جنس مفرداً ومجموعاً، بخلاف العقل الذي ورد مفرداً مشتقاً من اسم جنس، بعض الباحثين استخلص أن ليس هناك شيء مجسم في جسم الإنسان لذات اسمها (العقل)، أما القلب فإن هناك شيئاً لذات اسمها (القلب)؛ وهو تلك المضغة القائمة في الصدر، الأمر الذي يدعونا للفصل بين كل من جملة تلك المعاني (العقل) و(القلب)، لنصل إلى أن القلب من الألفاظ المشتركة؛ ومن جملة معانيها (العقل)[33]. والتعقل من أعمال القلب، والخطاب موجه إليه لتقوم به الحجة، فلا يعرف بحال من الأحوال إلا بأفعاله، والله يبين لعباده ما يعقلوه بقلوبهم[34] . والعقل يقال للهيئة، والقوة الكامن في النفس بالقلب، ولنور القلب وبصيرته، يبدأ طريقه من حيث ينتهي طريق الإحساس، وهو المعني بقولهم غريزة يلزمها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات، وبه يكون التمييز والإدراك والتأمل والفكر.

وجماع القول في نهاية الحديث عن تعريف العقل؛ أن العقل في اللغة وفي القرآن الكريم قوة مدركة في الإنسان، تميزه عن سواه من الكائنات، وتجعل منه مخلوقاً مسؤولاً عن أعماله، على أساس قدرته على الإدراك، والتمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، والحسن القبيح، "والقرآن يطلق ألفاظ القلب أو الفؤاد أو اللب أو النهى على الأداة أو الأدلة التي تقوم بوظيفة التعقل، أو الربط وإيجاد العلاقة بين الأسباب والنتائج"[35] فالقلب أداة لفقه حقائق الأمور، والتوصل إلى أصدق المعارف[36]، وعزي التعقل إليه[37].

أما التعقل فهو تفعل من العقل، وقد ورد بصيغ هي: تعقلون، ويعقلون، وعقلوه، ونعقل، على النحو الآتي:

1- عقلوه: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75].

2- تعقلون ويعقلون: في"46"موضعاً؛ ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾  [البقرة: 44]، ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾  [البقرة: 171].

3- نعقل:  ﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 10].

4- يعقلها: ﴿ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت:43].

باستقراء مواضع "التعقل" نلاحظ ما يأتي:

1- ورد بصيغة (أفلا يعقلون)؛ (أفلا تعقلون) "13"مرة، وهي أسلوب استفهام استنكاري، حيث ترد كلما خالف الناس واقعهم وناقضوا أنفسهم، قال السعدي[38]: "وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير، وينعقل به عما يضره، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به غيره، وأول تارك لما ينهى عنه، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله، أو نهى عن الشر ولم يتركه دل على عدم عقله، وجهله، خصوصاً إذا كان عالماً بذلك".

فالاستفهام كان للتوبيخ، بمعنى أليس لكم ذهن عاقل؛ فتفطنون به لأفعالكم، وتفهمون به الخطاب، وتعملون بما أمرتم، وتنتهون عما منعتم؛ أي: أليس لكم ذهن فتفطنون لقبح أفعالكم وأقوالكم[39]، مثال ذلك:  ﴿ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 76]، ﴿ وَلَدَارُ الآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾  [يوسف: 109].

2- ورد صيغة (لعلكم تعقلون)"8" مرات، وهي تفيد الفعل؛ أي بمعنى لتعقلوا ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 242]، ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2].  وهذه الصيغة وردت دائماً بعد لفظ (بيان)، أو تبيين من الله تعالى لأحكامه وحدوده. مثال لذلك في آية البقرة سبقها  ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ ﴾ [البقرة: 219]،  ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى ﴾ [البقرة: 220]، ثم أحكام الحيض والطلاق؛ بعدها ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ * كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾  [البقرة: 241- 242]؛ أي يبين حدوده وأحكامه؛ كيما يُعرف المقصود؛ ويعمل بالمطلوب. وفي الأنعام: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 151]؛ فالقرآن نزل مبيناً كيما نعقله، والله يبين آياته كيما تعقل.

3- المراد بالتعقل في جميع المواضع معنيان هما: عقل الخطاب؛ أي استيعابه بعد بيانه، والإنعقال به؛ أي حبس النفس على أوامر ونواهي الخطاب.
فكان التمييز والمنع، والتمييز بالبيان الذي جعله الله تعالى في آياته، والامتناع هو المطلوب، والإنسان مخير فيه، فإن لم ينعقل فلا عقل له؛ أي أنه لا يميز النافع من الضار، والخير من الشر.
قال ابن الجوزي في تفسير: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾  [البقرة: 242] يثبت لكم وصف العقلاء بإستعمال ما بيَن لكم، وثمرة العقل استعمال الأشياء المستقيمة، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ﴾ [النساء: 17]؛ وإنما سموا جهالاًً لأنهم آثروا أهواءهم على ما علموا أنه الحق[40].

4- في قوله تعالى: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75]؛ هنا كان الخطاب ثم سماعه ثم عقله ثم تحريفه عن علم، فأثبت لهم التعقل قبل العمل بالخطاب؛ بل وبعد تحريفه، لكن علقه بالخطاب وفقط؛ فلم يثبت لهم مطلق التعقل، (عقلوه)؛ أي أنهم فهموه، ووعوا المقصود، وأدركوا المطلوب منهم، ثم عصوا عن قصد وتعمد، فلم يوصفوا بأنهم عقلاء مدحاً، بل وصفوا بأن لهم القدرة على عقل الخطاب، مع عدم الإنعقال به؛ أي عدم الالتزام، لذا انتفى عنهم وصف "العقلاء" لاقتضاء العلم للعمل دائماً في القرآن الكريم.
ونفي العقل عن الكفار والعصاة ليس نفياً للقوة العقلية؛ لأنها مناط التكليف، بل نفي للعمل بمقتضى ما تعقله من علم وصلاح، ونفي لكمال العقل.

 

5- كل موضع نفي فيه العقل؛ فالمراد العقل بمعنى العلم المستفاد بالقوة المدركة ﴿ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت:43]؛ وكل موضع رفع فيه التكليف فالمراد القوة المدركة وهي العقل[41]، فالعقل على معانٍ[42]:

أ- القوة المتهيئة لقبول العلم؛ وهي ما يفارق بها غيره من الحيوان.

ب- العلم المستفاد من تلك القوة، أو ما وضع في الفطرة والطباع من العلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات.

ج- القوة الغريزية، المانعة والحابسة للنفس عن اتباع كل شهواتها ورغباتها، فهي المتحكمة بالمنع أو الإذن.

وكل موضع ذم فيه العقل لوقوعه في خطيئة؛ فإنما الذم للقوة الغريزية المانعة؛ فالعقل علم وعمل، والعلم القوة المتهيئة للعلم، والمستفاد من تلك القوة، وما فطر عليه العقل، أما العمل فهو القوة الغريزية التي تمنعه عن الشر والقبائح والباطل، وتسمح بالخير والحق والصلاح.

فالله تعالى أثبت لكل الناس العقل، ونفاه عن الكفار، ونفاه عن العصاة، وعن الجهال؛ وهذا يقع على أحد معاني العقل كل واحد بحسب السياق.

من ذلك قوله تعالى:  ﴿ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت:43]؛ فأثبت العقل للعلماء دون غيرهم، فالتعقل هنا بمعنى الفهم والتدبر للأمثال، مع تطبيقها على ما ضربت له، وعقلها في القلب.

6- في آيات الصيام: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، بعدها كان تفصيل مسائل الصيام، ثم ختم ذلك كله بقوله تعالى ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187]، ففرض الصيام الغاية منه حصول التقوى، وبيان أحكامه لتحقيق الغرض بتمامه وكماله، فالبيان للحق من دواعي فهمه وزيادة في حجيته وإعانة عليه. كما أنه يقيم الحجة عليهم؛ بأن يتقوا العقاب حال المخالفة، فكان بيان الحق وتفصيله للعمل على اتقاء الأخطاء و المعاصي والشر الناجم عنها.

بعد الآية كان السياق كالآتي:  ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ ﴾ [البقرة: 189] ثم مسائل الجهاد والحج بعد ذلك ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 215]، ثم ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ ﴾ [البقرة: 217]، بعدها  ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ ﴾ [البقرة: 219]، ثم ختمت بقوله تعالى:  ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 219]؛ أي بيان الدلالات على أحقية الحق، ومحصلات العلم النافع، والفرقان بين الخير والشر، والصدق والكذب، والحق والباطل، وكل ذلك ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾؛ أي تستعملوا فكركم في فرك هذه الأمور، والبحث فيها بحركة وجولان للقوة الإدراكية؛ من المطالب إلى المبادئ، ورجوعها من المبادئ إلى المطالب، والغاية من ذلك إدراك الأسرار، وتحصيل علم زائد عن العلم الحاصل من فهم الخطاب أولاً.

بعدها  ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى ﴾ [البقرة: 220]، ختمت الإجابة ﴿ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 221] أي يستحضروا ما أمروا به، فيعملوا اتقاء للعقاب، ثم يتفكروا اتقاء لأحكام الله، ثم يبين لهم كيما يتذكروا ما علموه أولا. بعدها ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ ﴾ [البقرة: 222] (يسألونك عن المحيض) ( البقرة/222)، بعد الإجابة كان تفصيل أحكام الطلاق ثم ختمت ﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 230]، فجعل الله بيان حدوده خاصاً بأهل العلم بإحكامه، لأنه يحب من يتعلم حدوده، ومن يعلمها هو من يفهم وجه الحكمة منها، وهذا حاصله زيادة علم، وهداية من الله تعالى بعد التذكر. بعدها أحكام المطلقة والأرملة، ثم ختمت ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 242]؛ أي عقل حدوده بفهمها، ومعرفة المقصود، والعمل بمقتضاها.

فالترتيب في مستويات من كان غرض التبيين للآيات موجها لهم كان كالآتي: المتقون، المتفكرون، المتذكرون، العالمون ثم العاقلون، مثلها في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [الجاثية: 3، 4]، بعدها ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 13]؛ وهذه هي مبدأ الحجاج؛ أي الكون مسخر ليتفكر به فيؤمن بذلك الإنسان. قال السعدي[43]: قسم تعالى الناس بالنسبة إلى انتفاعهم بآياته إلى قسمين: قسم يستدلون بها ويتفكرون بها وينتفعون، وهم "المؤمنون" بالله إيماناً تاماً؛ وصل بهم إلى درجة "اليقين"، فزكى منهم العقول، وازدادت معارفهم وألبابهم وعلومهم. وقسم يستكبر، ويسمع آيات الله ثم يعرض.

فالتعقل في القرآن الكريم هو أعلى درجات وصول العلم، لأن بعده العمل؛ وهو مقترن به، فالنفس أو القلب يصل إليها الخواطر والأحاسيس والشعور، ثم يكون الفكر بتقليب المعلومات والنظر فيها وتأملها، بعدها يكون فهمها وفقه المراد، ثم عقلها بأن تحبس في النفس المدركة وتنتقل إلى الإرادة لتعقلها عن العصيان وتلزمها بالطاعة، قال ابن تيمية: "العلم والعمل الاختياري أصله الإرادة، وأصل الإرادة في القلب، والمريد لا يكون مريداً إلا بعد تصور المراد، فلا بد أن يكون القلب متصوراً"[44]، والعقل في القرآن الكريم لا يرد ممدوحاً؛ إلا في مقام العمل بعد العلم، وإلا مجرد العلم دون القيام بمقتضاه يعد نقصاً في العقل[45]. فالغاية من العلم ليس الترف المعرفي بل التطبيق العملي. فكان كلما أمر وبين الله آياته وصف عباده حسب درجة الاستفادة من البيان؛ وكان أعلاها عقل ما بَيَّنَه، وذلك باستيعابه وتمييزه، ثم عقل النفس حسب مقتضى البيان؛ فتمنع عن مخالفة الأوامر؛ وتمنع عن ارتكاب النواهي. والطاعة لا تكون إلا عن التزام للأمر، والالتزام لا يكون إلا عن فهم لمقتضى الأمر بعد سماعه.

7- كلما ذكر الله تعالى التعقل بصيغة "قوم يعقلون" كان العقل إما:

أ- لحدود وأحكام الله تعالى؛ بوعيها والعمل بمقتضاها.

ب- لمننه وما سخر لعباده من أمور مختلفة ومتنوعة. فكان لا بد من مقابلة الخير النازل من الله تعالى؛ بمنع النفس عن العصيان، وإلزامها بالطاعة لمن يرزقها ويحسن إليها.

فكل سياقاته ورد فيها ذكر مسخرات الأرض والسماء، من طعام، وحيوان، ووسائل نقل ومزروعات، كقوله: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [النحل: 12]. أما إذا ذكر التفكر فكان يوجه نحو الحركة والاختلاف والتنوع، بينما العقل يذكر في مقام الامتنان على العاقل؛ ليُلزَم طاعة من سخر له ما في الأرض لخدمته. وبيْن التعقل وغيره فروق؛ تلاحظ في سياق الآيات التي تتابع، فغالباً يبدأ بالإيمان، ثم السماع، ثم التقوى ثم التفكر ثم التذكر ثم العلم ثم التعقل. وبين العلم والتعقل فرق، وهو أن العقل أول العلم الذي يزجر عن القبائح، وكل من كان زاجره أقوى كان أعقل. وسميت المعارف التي تحصر المعلومات عقلاً لأنها أوائل العلوم، فيقال: اعقل ما يقال لك، أي إحصر معرفتك، لئلا تذهب عنك[46]. لذا كان كل من لم ينزجر عن العصيان ومخالفة أحكام الله تعالى وإن علمها غير عاقل.

8- وظيفة التعقل دورها كما يبين القرآن القياس والتعميم، لذا كان ضرب الأمثال للعقلاء، كما في قوله تعالى: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 73]؛ فتقيسوا قدرة الله تعالى على إحياء هذا الميت على غيره؛ فيعم الحكم بأن الله تعالى قادر على إحياء كل الموتى. وآيات البعث كان البيان لإمكانه؛ بقياسه على إحياء الأرض بعد موت نباتها وزرعها.

9- التعقل دور لاحق بعد الاتصال بالواقع الذي يتم عبر الحواس، فإذا تعطل الإحساس تعطل التعقل قال تعالى: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾؛ تعطل لكل طرق الإحساس فكانت النتيجة ﴿ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 171][47].


ب- التفكر: تفعل من الفكر؛ وهوكل ما وقع في خلد الإنسان وقلبه، فالاسم الفِكْر والفكرة،  والمصدر الفَكْر-بالفتح-، والفعل التفكر[48]؛ وهو تفعل الفكر مع تأمل[49].

وقيل: هو تردد القلب في الشيء حتى يستقر[50]؛ أي قوة مهيأة للعلم، تؤدي إلى الوقوف على المعاني المقتضية للسكون؛ فهي جولان القوة المدركة بحسب النظر، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال فكر إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب[51]؛ فهو تصرف للقلب بالنظر في الدلائل، فيما يمكن أن يحصل له صورة فيه.

في القرآن لم يرد لفظ المصدر منه في القرآن، بل ما تصرف من أفعاله في"18" موضعاً.

فالتفكر وظيفة للجهة المدركة في الإنسان؛ بالتركيز على التفكر في أمور لتحصيل المعرفة، ولكنه يتميز بالدقة، ويحتاج إلى التدرج في استنتاج العلم، ويحتاج الحواس واليقظة في الفطرة للعلم الضروري، ويحتاج كذلك للتذكر، فهو عملية عقلية بحتة تستلزم البحث والدرس والتقصي[52].

وقال عنه أبو حامد الغزالي: هو أن تجمع بين علمين مناسبين للعلم الذي أنت طالبه، بشرط عدم الشك فيهما، وفراغ القلب عن غيرهما، وتحدق النظر فيهما تحديقاً بالغاً، فلا تشعر إلا وقد انتقل القلب من الميل الخسيس إلى الميل النفيس، إحضاراً لمعرفتين يسمى تذكراً، وحصول المعرفة الثالثة المقصودة من هاتين المعرفتين يسمى تفكراً ومن ثم فهو تأمل المعاني[53]. فهو بحث وتأمل فيما ورد على القلب من معاني وأحاسيس، وإدراك يكون فيما يمكن للعقل التفكير فيه من عالم الشهادة وقوانينه؛ مما يجعله طريقاً إلى الإيمان.

والفكر لا يكون إلا إذا استحكمت اليقظة؛ فتوجب الفكر بتحديق القلب إلى جهة المطلوب إلتماساً له؛ أي التماس العقل المطلوب بالتفتيش عليه.

قال ابن القيم: الفكر فكرتان:

• فكرة تتعلق بالعلم والمعرفة.

• وفكرة تتعلق بالطلب والإرادة.

فالتي تتعلق بالعلم والمعرفة: فكرة التمييز بين الحق والباطل، وبين الثابت والمنفي.

والتي تتعلق بالطلب والإرادة: هي الفكرة التي تميز بين النفع والضار. ثم يترتب عليها فكرة أخرى في الطريق إلى حصول ما ينفع، فيسلكها، والطريق إلى ما يضرها فيتركها.

فهذه ستة أقسام لا سابع لها، هي مجال أفكار العقلاء[54].

فالتفكير هو طلب القلب ما ليس بحاصل من العلوم؛ من أمر هو حاصل منها: هذه هي حقيقته، فإن لم يكن ثمة مواد تكون موارد للفكر؛ استحال الفكر، لأن الفكر بغير متعلق متفكر فيه محال، وتلك المواد هي الأمور الحاصلة، ولو كان المطلوب بها حاصلاً عنده لم يتفكر فيه[55].

فإذا عُرف ذلك؛ فالمتفكر ينتقل من المقدمات والمبادئ التي عنده؛ إلى المطلوب الذي يريده، فإذا ظفر به وتحصل له تذكر به، وأبصر مواقع الفعل والترك وما ينبغي إيثاره وما ينبغي اجتنابه، والتذكر هو مقصود التفكر وثمرته.

وجاء الأمر في التفكر في كتاب الله بصيغ مختلفة وهي: يتفكرون، تتفكرون، تتفكروا، يتفكروا وفكر. باستقراء الآيات التي ورد فيها تلك الصيغ نلاحظ ما يأتي:

1- جاءت الدعوى إلى التفكر في آيات الله الكونية في عدة مواضع منها: ﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ [آل عمران: 191].

2- جاءت الدعوى إلى التفكير في حال النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 184].

• وفي الأنفس: ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرُّوم: 8].

• في من مضى: ﴿ فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176].

• في الأمثال: ﴿ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21].
كان جانب التفكير هنا في الأنفس، وهي من الآيات الكونية، وفي الآفاق مما وقع فيها عبر التاريخ وتعاقب الأمم.

3- التفكر كان حاصلاً بعد بيان الآيات المتلوة والمخلوقة: ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 219]؛ كيما تصلوا إلى أسرار الشريعة بالتفكر في أحوالكم، لذا ورد بعدها ﴿ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ ﴾ [آل عمران: 22]؛ فالبيان للآيات كان الغاية منه إيجاد موضوع ليتفكر فيه للوصول إلى مصالح الدنيا والآخرة والنجاة في المآل بعد الحال.

4- بالنظر في مواضع مجتمعة؛ يتبين أنها جاءت بالدعوى إلى ضرورة التثبت والاستفادة من الآيات البينة لمعرفة العواقب وفهم النتائج والتمييز بين النافع والضار.

وغالبها تدعوا للتفكر في ميدان الأنفس والآفاق أي الآيات الكونية؛ و تشمل أسرار الأنفس، والسنن الاجتماعية، وتاريخ الأمم وقصصهم، مثال ذلك: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الرُّوم: 21] فهي آية لمن ينتفع بها، ويتفكر فيما ينشأ بين الزوجين من علاقة لا تكون مع غيرهما، فوصف ذلك بالسكون؛ أي الطمأنينة بينهما، وخلق بينهما مودة ورحمة دون رحم بينهما، ولا صلة دم سابقة. وفي ذكر المودة والرحمة دون ذكر المحبةِ لطيفةٌ، وهي أن المودة والرحمة تنازل الحبيب عن حقه تقرباً ممن هو دونه، ومن ليس بحاجة له ضرورة، كأن يتقرب الغني المتمكن من الفقير؛ ولا حاجة يرجوها منه غير القرب، والرحمة لطف من القوي؛ وهو الزوج على الزوجة الضعيفة، ففيه تنبيه على حمايتها ورعايتها وعدم إيذائها.

وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الرعد: 3]. فهذه آيات كونية شملت الحركة والتنوع والتقابل، فالله ذكر أن الأرض فيها رواسي وهي الجبال، لكن لم يبين كيف تثبت الجبال الأرض، ولماذا هي متحركة رغم أننا نشعر بثباتها ؟ ولم يبين التنوع الزوجي بين الثمار وفائدته، كل ذلك إستثارة للفكر؛ كي يتحرك ويبحث عن العلل، ويتبين سبب التنوع والحركة والتقابل.

5- بعض الآيات التي اقترن فيها التفكر والتعقل، كان التفكر دائماً سابقاً للتعقل والتذكر.

كما يلاحظ أن التفكر كان في الحركة والتنوع، بينما التعقل كان في القدرة والمنة.

ج- التدبر: وهو تصرف القلب بالنظر في الدلائل، مثل التأمل وهو استعمال الفكر مع تمهل[56]، والتدبر تفكر في دبر الأمور؛ أي عواقبها. فالتدبر في الأمر: أن تنظر إلى ما يؤول إليه في عاقبته[57].

ورد التدبر في القرآن الكريم بصيغة الفعل "يتدبرون"، "يدبروا"، كلها التدبر في الآيات المتلوة؛ ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ ﴾ [النساء: 82]، ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ ﴾ [المؤمنون: 68]، ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].

قال الزمخشري: تدبرُ الأمر تأملُه، والنظرُ في أدباره؛ وما يؤول إليه في عاقبته، ومنتهاه، ثم استعمل في كل تأمل، فمعنى تدبر القرآن تأمل معانيه وما فيه[58].

فالتدبر تفكر لكن فيما يؤول إليه الأمر من نتائج وعواقب، فهو وظيفة للجهة المدركة في الإنسان؛ ولكنه تفكير عميق مع ما يتبعه من تعقب لأدبار الأمور ونتائجه، وثمرته التذكر وبلوغ مرتبة أولى الألباب؛ بذلك يكون التدبر درجة أعلى من التفكر وأدنى من التذكر.

د- التفقه: من الفقه وهو الفهم بالعلم والحذق في الصنعة اللفظية؛ والبيان[59]. وهو العلم بمقتضى الكلام مع تأمله؛ لذا أطلق على فهم الخطاب الشرعي "الوحي"؛ ومعرفة مقتضاه عن تأمل (علم الفقه). قال ابن دريد[60]: رجل فقيه: عالم، وكل عالم بشيء فهو فقيه، وغلب الفقه على علم الدين؛ لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم، وتخصص بعلم الفروع في بالشريعة.


قال الزمخشري[61]: الفقه -حقيقة- الشق والفتح، لأن الفاء والقاف وما يتبعهما في العربية تدل على هذا المعنى: فقأ، فقح، فقص، فقع، فقر. والفقيه الذي يشق الأحكام ويبحث في حقائقها، ويفتح ما استغلق منها.

ورد في القرآن الفعل لا المصدر، وكانت دلالاته على أنه أخص من الفهم ومن العلم: ﴿ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 78]؛ فهو توصل إلى علم غائب بعلم شاهد[62].

وقوله تعالى: ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 97]؛ "يفقهون" هنا مضارع "فقيه" - بكسر القاف – لأن تلك درجة عالية ومعناه صار فقيهاً (من فقَه)، ففقيه (من فقِه) على ذلك أنزل درجة من العلم لأن معناه "ففهم" والفهم أدنى درجات العلن[63].

غير أنه أعلى من الفهم، لأن الفهم شرط في قيام الحجة غير أن الفقه ليس شرطاً، فكان عدم فقه الكفار والمعاندين لكلام أنبيائه ليس دليلاً على سقوط التكليف عنهم ﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ ﴾ [هود: 91]، فقوم شعيب فهموا خطاب نبيهم عليه السلام بدليل قولهم له قبل ذلك: ﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [هود: 87]، فقولهم: ﴿ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ ﴾ لا نفقه كثيراً مما تقول"؛ أي لا نفهمه كما نفهم الأمور الحاضرة المشاهدة[64]. فهم لم يقتنعوا بوجه الحجة، ولم ينفذوا بفكرهم إلى علة صحة ما يقول؛ مع فهمهم لكلامه وقوة حجته، وذلك كان على وجه التضجر من نصائحه ومواعظه، وعدم فقههم؛ لبغضهم لما يقول ونفرتهم عنه"[65]. والحاجز النفسي كان مانعاً للإنتقال من درجة الفهم إلى درجة الفقه؛ أي الوقوف على المعنى الخفي المتعلق به الحكم، بتعقل وعثور يعقب الإحساس والشعور[66].

ورد فعل التفقه على تصاريف وهي: تفقهون، نفقه، يفقهوا، يفقهون، يفقهوه، يتفقهوا، بإستقراء الآيات نلاحظ:

1- التفقه يكون للكلام والقول والحديث: ﴿ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ﴾ [طه: 27]، ﴿ فَمَالِ هَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 78].

2- التفقه من أعمال القلب: ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 179].

3- نتيجة الطبع على قلب الكافر والمعاند هي عدم الفقه ﴿ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 87]؛ فخص القرآن الطبع بعدم التفقه.

ومثله الأكنة ﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ﴾ [الإسراء: 46]، وفي الكهف: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ﴾ [الكهف: 57]؛ والأكنة هي الأغطية.

4- وظيفة التفقه أعمق من الفهم والإدراك كما في قوله تعالى: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44].

5- التفقه ورد على أنه وظيفة تحصيل؛ أكثر منها وظيفة نظر وتفكر، أي هو هيئة حاصلة للإنسان بعد نشاط فكري، وخص بالدين في القرآن الكريم: ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ﴾ [التوبة: 122]؛ فالتفقه هنا التخصص في تعلم الدين، وهنا الفقهان الأكبر والأصغر لا فرق بينهما، قال السعدي[67]: "وفي هذه الآية دليل وإرشاد لفائدة مهمة، وهي أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت لغيرها لتقوم مصالحهم وتتم منافعهم".

قال أبوحامد الغزالي: "كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقاً على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال.. وكان لفظ الفقيه لا يطلق قديماً إلا على من كانت لديه ملكة تساعده عليها فطرته وممارسته، فيستطيع بها أن يستنبط الأحكام الشرعية في الأمور العملية من أدلة الشرع وأمارات الأحكام، فكان لفظ الفقيه يساوي لفظ المجتهد، ثم على كل من اشتغل في الفقه؛ وحفظ الفروع"[68].

هـ- التبصر: من البصيرة؛ وهي فطنة تمنع الإنسان من الغفلة، وبصر المتعدي بالباء يؤدي معنى عليم[69]. فالبصيرة هي قوة مدركة في القلب وجمعها بصائر[70].

وفي منازل السالكين؛ أو منازل العبودية: "اليقظة" هي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين .. فإذا استيقظ أوجبت له اليقظة "الفكرة"، وهي تحديق القلب نحو المطلوب الذي قد استعد له مجملاً، ولما يهتد إلى تفصيله وطريق الوصول إليه، فإذا صحت فكرته أوجبت له "البصيرة"؛ نور في القلب يبصر به الوعد والوعيد والجنة والنار، فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة ودوامها؛ والدنيا وانتقاصها".

قال ابن القيم: فالبصيرة نور يقذفه الله في القلب؛ يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل؛ كأنه يشاهده رأي العين: فيتحقق - مع ذلك- انتفاعه بما دعت إليه الرسل، وتضرره بمخالفتهم ؛ وهذا معنى قول بعض العارفين: "البصيرة" تحقق الانتفاع بالشيء والتضرر به.

وقال البعض:" البصيرة ما خلصت من الحيرة إما بإيمان؛ وإما بعيان. وهي على ثلاث درجات:

الأولى: أن تعلم أن الخبر القائم بتمهيد الشريعة يصدر عن عين لا يُخاف عواقبها، فترى من حقه أن تؤديه يقيناً؛ وتغضب له غيره.

الثانية: أن تشهد في هداية الحق وإضلاله إصابة العدل، وفي تلون أقسامه رعاية البر، وتعاين في جذبه حبل الوصل.

الثالثة: بصيرة تفجر المعرفة، وتثبت الإشارة، وتنبت الفراسة.

وهذه تتفجر بها ينابيع المعارف من القلب، ولم يقل "تفجر العلم"؛ لأن المعرفة أخص من العلم عند القوم[71]، ونسبتها نسبة الروح إلى العلم، فهي روح العلم ولبه.

وصدق فإن بهذه البصيرة تتفجر من قلب صاحبها ينابيع من المعارف؛ التي لا تنال بكسب، ولا دراسة؛ إن هو إلا فهم يؤتيه الله عبداً في كتابه ودينه على قدر بصيرة قلبه"[72].

والبصيرة تكون للآيات المشهودة المشاهدة: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق:6 – 8]؛ فالتبصرة آلة البصر، والعبد إذا أناب بقلبه إلى ربه؛ أبصر مواقع الآيات عن بصر ونظر ورؤية معانيه، ثم يبصر القلب الحق بقواه الإدراكية، كما في قوله تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ﴾ [الأنعام: 104]، والعبرة لا تكون إلا لمن يبصر محلها؛ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَار ﴾ [آل عمران: 13]؛ فأولوا الألباب نصيبهم التذكر، وأولوا الأبصار نصيبهم الاعتبار ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].

و- النظر: نظر في الأمر بالبصيرة والقلب على سبيل التفكر؛ والإحاطة به حفظاً؛ وإظهاراً لصوابه؛ بالمناظرة والرأي الحسن[73]، والنظر كقوة إدراكية؛ هو ترتيب أمور معلومة؛ على وجه يؤدي إلى استعلام ما ليس بمعلوم. وقيل: النظر عبارة عن حركة القلب لطلب علم من علم[74].

في مراتب وصول العلم إلى النفس نجد: الفهم وهو تصور الشيء من لفظ المخاطب، والإفهام إيصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع.

والفكر: حركة النفس نحو المبادئ والرجوع عنها إلى المطالب.

والنظر: ملاحظة المعلومات الواقعة في ضمن تلك الحركة، فالنظر إقبال على الشيء بالبصر، وعلى الأمر بالقلب؛ والرؤية إدراك المرئي، وإمهال النظر تأمل وروية.

أكثر ما جاء من مادته في القرآن كان عن البصر أو البصيرة، لأنهما من مداخل التفكير، والنظر بالبصر المراد منه الملاحظة بالعين والتفكر بالقلب، فليس الأمر بالنظر في القرآن لتسلية الأعين بل لتذكير القلب وتفكره. واستعمال النظر في البصر أكثر عند العامة وغالب، وفي البصيرة أكثر عند العلماء. وما جاء في القرآن الكريم كان في الغالب حض على إعمال الفكر في مواطن كثيرة وبصيغ مختلفة؛ منها:

• نظر: بصيغة الماضي في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ نَظَرَ ﴾ [المدثر: 31]؛ لبيان حال النظر المذموم، والتفكير الضال الذي وقع فيه الوليد بن المغيرة، حتى طعن في القرآن.

• ننظر: بصيغة المضارع في قوله: ﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27]، جيء به لدلالة التثبت من الخبر قبل إصدار الحكم.

• فلينظر: بصيغة المضارع المقترن بلام الأمر وهو في أمرين:

1- في أصل ومادة الخلق: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾ [الطارق: 5].

2- في كيفية الخلق: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ﴾ [عبس: 24-27].

• انظر: بصيغة الأمر؛ فهي حث على التحديق والتأمل والتفكر والتدبر لبلوغ الغاية المرادة من توجيهه نحو المنظور: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ﴾ [البقرة: 259]؛ ومثله (انظروا).

• ينظروا: بصيغة المضارع، وجاء في الحض على التأمل والتفكر في المخلوقات؛ من أجرام وأكوان وأحوال للناس:

1- في آيات الله الكونية: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 185].

2- في آيات الأنفس من أحوال الأمم الخالية العاتية في الدنيا؛ وما كانوا عليه من القوة والسلطان، ثم ما أصابهم من العذاب في الدنيا لعصيانهم؛ وما يلحقهم من العذاب في الآخرة ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ ﴾ [غافر: 21].

من خلال استقراء الآيات نلاحظ:

أ- وظيفة النظر في القرآن طريق عقلي أي قوة إدراكية، وليست وظيفة حسية في غالب مواردها.

ب- النظر سياقه ومعنى تركيبه يحوي دلالة على التفكر مع تحديق وتأمل وتمهل؛ فهو يحوي معنى الانتظار.

ج- غالب ما وجه النظر إليه هو آيات الآفاق " الكون"، وآيات الأنفس؛ من أحوال الناس السابقين والحاليين.

وتخصيص البعض أن النظر في الآيات الكونية والظواهر الاجتماعية حجر لواسع، فالنظر كان في الأنفس والأمم وأحوالها وهذا يشمل كل علومهم؛ الطبيعية والإنسانية والظواهر بتنوعها واختلافها، والأولى استعمال المصطلح القرآني لأنه يسع الزمان والمكان، فيكون قولنا النظر موجه نحو ميادين الشهادة بشقيها الآفاق والأنفس.

قال القاضي عبد الجبار المعتزلي:" اعلم أن النظر وإن كان متى أطلق؛ فقد تعبر به عن وجوه: عن تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي؛ التماساً لرؤيته، وعن الرحمة والإحسان، وعن نظر القلب، وعن الانتظار.. فالمقصد بها بهذا الموضع ذكر نظر القلب دون غيره. وحقيقة ذلك هو الفكر لأنه لا ناظر بقلبه إلا مفكر، ولا مفكر إلا ناظر بقلبه، وبهذا تعلم الحقائق... واعلم أن الناظر يجد نفسه ناظراً؛ لأنه يعقل الفرق بين أن يكون ناظراً؛ وبين سائر ما يختص به من الأحوال. كما يعقل الفرق بين أن يكون معتقداً ومريداً، ولا شيء أظهر مما يجد الواحد منا نفسه عليه، لأنه في حكم المدرك في قوة العلم به"[75].

ح- الرأي: قال ابن القيم: العرب تفرق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالها ... "فالرؤيا" في النوم...و"الرؤية" في الإبصار، والرأي لما يعلم بالقلب ولا يرى بالعين[76].

والرأي لم يأتِ بمعنى الإبصار؛ إلا حال اقترانه بقرينة دالة على ذلك ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ ﴾ [آل عمران: 13]. والذي يهمنا من مادة رأى؛ الذي يكون بمعنى الفهم أو العلم أو الإدراك العقلي للأشياء، فقد وردت: (ألم تر) "31" مرة بمعنى الرؤية القلبية؛ وذلك أن الخبر والعلم لا يُجلبان إلا برؤية[77]. ورأى إذا عُدي إلى مفعولين اقتضى معنى العلم، والرأي اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن[78].

وقال بعضهم: الرأي هو إحالة الخاطر في المقدمات التي يرجى منها إنتاج المطلوب. وقد يقال للقضية المستنتجة من الرأي رأي، ويقال لكل قضية فرضها فارض رأي أيضاً[79]. وهو أعلى درجة من الفكر وأدنى من الاستبصار.


جاء في القرءان الكريم بصيغة الإفراد والجمع في حال المخاطبة والغيبة، وبيانه كالآتي:

• (تر): وهي صيغة خاصة في القرآن، خاطب بها الله تعالى نبيه في مواضع عدة، وهي تشمل كل من تبعه من أمته ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللهُ المُلْكَ ﴾ [البقرة: 285]، وهنا بمعنى ألم تخبر وتنظر بقلبك إلى الخير فتتأمل فيه، وكل ما لم يره النبي صلى الله عليه وسلم فالمعنى "ألم تخبر". وكان أغلب ما يرد فيه اللفظ يحكي عن الأمم وأحوالهم ومآلهم أو عن من مضى.

• (ير): جاءت بصيغة الغائب؛ تنبيها للتأمل فيما حول الإنسان من آيات مرئية تستشعره

وتثيره للتفكير فيها، ليعتبر بما يرى ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴾ [يس: 77].

• (يروا) و(يرون): كلها للحض على إعمال الفكر في آيات الآفاق والأنفس، من أجرام سماوية وآفاق أرضية، والقياس بما يرى ويعاين على الغائب؛ فكلها أمثال وصور جعلت ليعي الإنسان؛ أن ما غاب عنه حقيقة مثل ما هو معاين عنده.

قال ابن القيم[80]: الرأي في الأصل مصدر رأى الشيء يراه رأيا، ثم غلب استعماله على المرئي نفسه، من باب استعمال المصدر في المفعول، كالهوى في الأصل مصدر هوية يهواه هوى؛ ثم استعمل في الشيء الذي يهوى، فيقال: هذا هوى فلان.

والعرب تفرق بين مصادر فعل (الرؤية) بحسب محلها، فتقول: رأى كذا في النوم رؤيا، ورآه في اليقظة رؤية، ورأى كذا- لما يعلم بالقلب ولا يرى بالعين-رأياً، ولكنهم خصوه بما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب؛ مما تتعارض فيه الأمارات. فلا يقال لمن رأى بقلبه أمراً غائباً عنه؛ مما يحس به: إنه رأي . ولا يقال أيضاً للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول ولا تتعارض فيه الأمارت إنه رأي، وإن احتاج إلى فكر وتأمل كدقائق الحساب ونحوها.

والرأي ثلاثة أقسام: رأي باطل بلا ريب، ورأي صحيح بلا ريب، والثالث هو موضع الاشتباه.

ط- التذكر والذكر: الذكر في معناه العام الحفظ للشيء، ومنه الشيء يجري على اللسان، ويكون الذكر باللسان والقلب، ومن معانيه الصيت والثناء وكتاب الدِّين، والقرآن لشرفه.

قال الفراء[81]: الذكر: ما ذكرته بلسانك وأظهرته[82]. وقال الجوهري[83]: الذكر خلاف النسيان[84]. فالذكر هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتباراً بإحرازه، والذكر اعتباراً باستحضاره؛ سواء بالتدبر أم بالنطق أم بالحديث على هيئة الحكاية. ويقال لحضور الشيء في القلب أو القول ذكر باللسان؛ وكل واحد منهما ضربان؛ ذكر عن نسيان، وذكر عن إدامة حفظ لا عن نسيان.


وإنما سمي العلم تذكراً لقوة الدلائل وظهورها؛ كأن ذلك العلم كان حاصلاً؛ وإن بعد حين، بما يستعمله من التدبر والنظر[85]. "فالحافظة" هي القوة التي تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعاني، و"الذاكرة" هي القوة التي تستحضر المعاني التي وعيتها الحافظة وتتذكرها[86].

جاء في الذكر عدة تصاريف، وعلى"16" وجها في التفسير، وذلك لضرورة تخصيص الدلالة تأدية للمعنى المراد، ولكن كل هذه الوجوه فيها استحضار وتدبر، فقد جاء الذكر دالاً على الطاعة والعفة، والقرآن، والبيان، والخير، والذكر باللسان وبالقلب، والوحي، والعلم، والحفظ والدراسة[87]. والتذكرة ما يتذكر به الشيء؛ وهو أعم من الدلالة والأمارة كما في قوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73][88].

فالتذكر وظيفة إدراكية لتحصيل المعرفة، ولكن التذكر يكون باسترجاع المعاني سواء منها:

• التذكر للمعاني الفطرية، أو المعلومات السابقة التي تقر بها الفطر جميعاً، ويتناساها الناس في غمرة التحدي والإعراض والانحراف[89].

• أو التذكر للمعاني من خلال النظر في الآيات الكونية، والسنن الاجتماعية، والآيات القرآنية، أو من النظر باسترجاع المعاني، وأخذ العبرة من مصارع الغابرين وقصص الماضيين، فهو نشاط إدراكي ما بعد التفكر والتدبر، ولا يكون إلا للخلص وأولي العقول الزاكية.

باستقراء آيات القرآن يتبين أن التذكر ورد بصيغ عدة، وفي سياقات متنوعة وهي:

1- يرد مع أداتي الحض (أفلا) و (فلولا)؛ في سياق الاستفهام الإنكاري للتوبيخ كقوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [هود: 24].

وهنا المفارقة ملزمة لكل عقل، فالفطرة تقر مع الحواس والعقل أن بين الأعمى والبصير فرقاً كما أن بين السميع والأصم فرقاً، فلزم أن يكون بين الشقي والسعيد فرق، فكان على المتفكر في هذه المقارنة أن يستحضر مكانه؛ وموقعه مع الأشقياء أم مع السعداء؛ فيتذكر أن لابد من الأعمال النافعة المنجية فيقبل عليها، ويتذكر الأعمال الضارة المهلكة فيعرض عنها.

2- إذا ورد اللفظ مسبوقاً بـ"لعلكم" أو"لعلهم"؛ فهو للتحقيق وبيان العلة، كما في قوله تعالى ﴿ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النور: 1]، ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [الزُّمر: 27].

3- التذكير يسبقه بيان وتفصيل ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾ [الفرقان: 50]، ﴿ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 126].

4- التذكر خاص بأولي الألباب دون غيرهم ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269].

﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ [الرعد: 19]، فالتذكر فعل اللب وهو خالص العقل.

5- التذكر يكون في آيات الله الكونية والمتلوة ﴿ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الذاريات: 49]، ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الواقعة: 62]، وفي الآيات المتلوة: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].

6- كل متذكر هو متفكر أو متدبر ضمناً، ولا يلزم أن يكون كل متفكر أو متدبر متذكراً؛ لحصر التذكر بأولي الألباب فقط دون غيرهم. فالتذكر قرين الإنابة ﴿ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ﴾ [غافر: 13]، ﴿ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 8]. والتذكر مع التفكر يثمران أنواعاً من المعارف، وحقائق الإيمان والإحسان. والعارف لا يزال يعود بتفكره على تذكره، وبتذكره على تفكره، حتى يفتح قفل قلبه بإذن الفتاح العليم، قال الحسن البصري:" مازال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر، وبالتفكر على التذكر، و يناطقون القلوب حتى نطقت.

قال صاحب المنازل: التذكر فوق التفكر، لأن التفكر طلب، والتذكر وجود. يريد أن التفكر التماس الغايات من مباديها، أما التذكر فالتفكر يكون حاصلاً قبله، ثم غاب عنه بالنسيان، فإذا تذكره وجده فظفر به.

و"التذكر" تفعل من الذكر، وهو ضد النسيان أي حضور صورة المذكور العلمية في القلب، واختير له بناء التفعل، لحصوله بعد مهلة وتدرج، كالتبصر والتفهم والتعلم"[90].

فالتذكر اختص بأولي الألباب؛ وهم من آتاهم الله تعالى الحكمة، واختص بأهل الإنابة، كما سبق التذكر التفكر والتبصر في الآيات المشهودة؛ والتدبر لكلام الله تعالى، فالعبد المنيب التائب إلى الله تعالى يكتسب صفاء البصيرة، فيبصر مواقع العبر في الآيات المخلوقة والمتلوة، لأن التبصرة آلة البصيرة، والتذكرة آلة التذكر، فيترتب عن التفكر والتدبر التبصرة، وعنها يترتب التذكر؛ فتحصل الهداية، فالإنابة تزيل عنه الغفلة فيبصر؛ والبصيرة توجب حضور الصور الدلالية بالقلب؛ فتزول عنه الغفلة فيتذكر. قال تعالى: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 3]؛ لفظ "قليلاً" صفة لمفعول مطلق محذوف مقدم على فعله،  ولفظ "ما" لتأكيد القلة.

والمراد بالتذكر الأثر النفسي والسلوكي؛ الذي يثيره أو يحدثه التذكر لقضية ما من قضايا المعرفة.

والمعرفة المرادة هنا هي المعرفة الدينية؛ التي أوحى الله بها إلى رسوله، وهو ما جاء بيانه في صدر الآية. والتذكر هنا هو استحضار المعلومات من الذاكرة، باستخراجها من مخازن المعرفة وإحضارها إلى ساحة التصور الحاضر.

والناس حال حصولهم على المعارف بطرقها الفكرية أو التجريبية أو الخبرية، قسمان:

أ- قسم تمر عليه الفكرة، فلا يعتني بها ولا يكترث لها، ويدعها تمر عابرة دون أن يهتم بنقلها إلى مخازن الذاكرة في نفسه، بسبب إهماله وعدم اهتمامه. وهذا القسم من الناس مسؤول عن إهماله وتقصيره ومؤاخذ عليه.

ب- قسم يحافظ على المعارف، ويخزنها بنفسه، وأصحاب هذا القسم صنفان:

1- الأول يستدعي المعلومات من مخازن الذاكرة؛ إلى ساحة التصور الحاضر عند المناسبة التي تقتضيها، وهذا هو التذكر.

2- والثاني يهمل هذه المخازن؛ حتى تكون في زوايا المتروكات والمهملات، أو نوادر الاستدعاء، أو في غياهب النسيان.

وحال إحصاء واقع الناس نجد القليل النادر منهم الذي يكتسب المعرفة الدينية التي تخدم الآخرة، والكمال الحقيقي للإنسان، ثم يحافظ عليها في مخازن المعرفة لديه، ويستدعيها إلى ساحة التصور والتذكر عند المناسبات ليحرك السلوك"[91].

فاشتغال النفس بما أمرها الله تعالى من تكاليف، وتقيد النفس بأوامر ونواهي الله تعالى، لابد أن يسبقه عمل القلب وفعله؛ وضمنا هنالك تفكر وتدبر وإيمان قبلها، والمداومة على الطاعة إنما هي للمداوم على التذكر، فهو محرك القلب؛ والقلب سيد الأعضاء ورئيسها، وصلاحه صلاح لها لزاماً، فكلما كان المدرَك أكثر حضوراً في النفس بالتذكر؛ كان أكثر تأثيراً عليها وأشد في تحريكها نحو الفعل.

فمن شغل ذهنه بالآخرة وما يحقق السعادة الأبدية؛ كانت جوانب نفسه كلها مستثارة لتحقيق مطالب الآخرة، والسعي بإصلاح أعمال ونوايا النفس، حتى تصفى نفوسهم من كل غاية غير الآخرة وطريق الوصول إليها. وهذا حال الأنبياء، وهو ما خاطب به الله تعالى آخر أنبيائه محمداً عليه الصلاة والسلام: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ﴾ [ص: 45- 47]؛ فالخصلة الخالصة من الشوائب التي اصطفاهم الله بها، وجعلهم بها من المصطفين الأخيار؛ هي أن ساحة تذكرهم دوما هي الدار الآخرة، وكل ما يوصلهم لها من أعمال في الدنيا. فكل حركاتها ونواياهم موجهة لغاية واحدة، وكل أعمالهم للقربى من الله تعالى، حتى بنومهم وقيامهم.

والتذكر النافع الموجه للإرادة؛ إنما يكون من المؤمنين المتقين الحكماء، وهم أولوا الألباب، فخلاصة الفكر التذكر، وخلاصة أهل الفكر أولوا الألباب، وخلاصة العقل اللب، وخلاصة العقلاء أولوا الألباب، قال تعالى: ﴿ يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]. والألباب هي العقول الخالصة من كل الشوائب؛ الواعية العاقلة للمعارف والمتمسكة بها، فتعقل النفس عن اتباع الهوى والغواية.

الفرع الرابع: مجال الإدراك العقلي في القرآن الكريم:

تبعاً لدور القوة المدركة في تحصيل المعرفة؛ نجد أن التفكر والنظر كأهم ما يميز الكينونة الإنسانية المدركة؛ يتعامل مع الكون الذي يعيش فيه، وهو مزود بالحواس التي تفتح له آفاق المعرفة لعالم الشهادة، والفكر وهو يتقدم إلى معرفة ما في الكون من محسوسات؛ لا يكتفي بالإدراك الظاهري لها؛ وإنما يحكم بوجودها ونهايتها، فالمعرفة تحصل بالقوة الإدراكية ونشاطاتها حيث تعتمد على الحواس، وما ينبني من تراكم معرفي، وقوانين تصبح بديهية، لفهم و إدارك ما هو معاين؛ والقياس عليه لإدراك وجود ما لا يعاين في الحال، وهذا ما يصطلح عليه قرآنياً بمجال الشهادة والغيب.

فعالم الشهادة عالم فسيح للفكر؛ من خلال ما يتميز به من معرفة ضرورية، وقوانين منظمة لما تسعفه به الحواس، فكل ما في العالم مجال للفكر؛ من سماوات وما بها من طبقات وكواكب ونجوم، ومن أراضي وما بها من جبال وسهول وبحار وأنهار، والإنسان هو عالم مصغر، فكل هذا ميدان للفكر، وهو مسخر لخدمة الإنسان، ومسخر لفهمه والتفكر فيه ﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ [لقمان: 20].

فالكون مسخر للعقل الإنساني يبحث فيه، ويصل بالنظر والتأمل إلى أسرار أودعها الله فيه، ولكن هذا المجال ضبط بأن جعلت النظرة إليه لغاية، والوجهة بمنهج؛ وهذه الغاية هي توحيد الله تعالى، والمنهج إعمار الأرض؛ والعبادة فيها بطاعة الله تعالى واتباع أنبيائه.

كما وجه الإنسان للتدبر في آيات الله المتلوة، وهي مصدر لمعرفة عالم الغيب، وفهمه مع ضبط الفكر، بأن لا يقتحم إلا ما قدر عليه، لذا وجه الإنسان نحو ما ينفعه، وما هو أهل للبحث فيه، أما ما لا طاقة له به؛ فقد بين له ما يقدر عقله استيعابه، وحجب عنه ما لا يؤثر علمه في المطلوب منه، ولا يضر الجهل به بالمهمة التي خلق لأجلها.

فعالم الغيب كقضية في مجال الإدراك من حيث المبدأ؛ يعترف بها العقل والفطرة، أما تفصيل هذا العالم فليس له طاقة ولا قدرة ولا وسيلة غير الوحي، بينما سخر له ما يمكنه من التسليم بوجوده. وجاء ليعرض بعض تفصيلاته دون الخوض في "الكيفيات" أو محاولة البحث في الماهيات؛ لأن القدرات الإدراكية في الدنيا غير مؤهلة لذلك، بل لا حاجة لها بها.

فخصائص العقل القياس والاعتبار والتعميم والضرورة، وكلها تبنى إما على ما تنقله الحواس أو ما تراكم من معارف ونتائج عن ما نقل تتابعاً عن الحواس. فعدم تحديد المجال الذي يرتاده العقل ويبحث فيه؛ هو أكبر خطأ منهجي يرتكبه الباحث في اعتماده على هذه القوة المعرفية، وتحديد المجال الذي ينبغي أن يعمل فيه العقل؛ متوقف على النظر في حدود طاقته وإمكاناته؛ حتى لا يخوض في بحث يخرج عن إطار طاقته ويفوق إمكاناته.


فطاقة العقل وقدرته الذهنية محدودة، ولا يستطيع أن يتعقل جميع الأشياء، أو يبحث في جميع القضايا، وكذلك إمكاناته ووسائله محدودة، إذ قوتا السمع والبصر مثلاً لا تستوعبان جميع المسموعات وجميع المرئيات، فعملهما يبقى محدوداً في إطار المسموع والمشهود، والعقل يحكم في القضايا التي يتصورها تصوراً محدوداً في إطار المسموع والمشهود، ويحكم في القضايا التي يتصورها تصوراً تاماً؛ إذ الحكم على الشيء هو فرع عن تصوره، وأما القضايا التي لم يتصورها ألبتة، أو كان تصوره لها ناقصاً؛ فلا يجوز له الحكم عليها لا بالنفي ولا بالإيجاب.

فأهم ما يحد من قيمة الحجاج العقلي؛ هو قدرته الكبيرة على إقامة الأدلة لما يعتقده حقاً وصواباً "إذ لا يعجزه أن يجد الحجج المفحمة المقنعة؛ لإثبات وجهة نظره، وإن لم تكن صحيحة في الأمر نفسه، فهو خصيم شديد العدواة والجدال، مبين لأوجه الخلاف والمعارضة ﴿ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾  [الكهف: 54].

فلا غرو أن تفاوت المعارف العقلية بين الناس؛ لاختلاف القدرات الذهنية والإرادات الباعثة على اكتساب المعارف، فالمعلومات منها ما هو مشترك بين عامة الناس وهي قليلة؛ ويرجع غالبها إلى الحس المشترك أو الحس العام، ومنها ما يكون مشترك بين فئات معينة، ومنها ما يختص بأشخاص معينين. وهذه المعلومات تنقسم إلى بديهية ونظرية، والنظري يفتقر إلى البديهي؛ والبديهي لا يكون دون إعانة الحواس، كما يستقر على التسليم نتيجة التكرار وثبات الحكم دوماً؛ أي أن تسليم العقل أن "أ" هو "أ"؛ لن يكون إلا بعد تكرار تلقيه لمثال "أ" دائماً هو"أ"؛ فيسلم أن "أ" هو "أ" دائماً وأبداً، فيصبح بديهياً ومسلماً به دائماً وأبداً، مما يقتضي قانوناً ثابتاً هو "مبدأ الهوية".

"وكون العلم بديهياً أو نظرياً؛ هو من الأمور النسبية الإضافية، مثل كون القضية يقينية أو ظنية، إذ قد يتيقن زيد ما يظنه عمرو، وقد يبدي زيد من المعاني ما لا يعرفه غيره إلا بالنظري، وقد يكون حسياً لزيد من العلوم؛ ما هو خبري عند عمرو، وإن كان كثير من الناس يحسب أن كون العلم المعين ضرورياً أو كسبياً أو بديهياً أو نظرياً؛ هو من الأمور اللازمة له، بحيث يشترك في ذلك جميع الناس، وهذا غلط عظيم، وهو مخالف للواقع، فإن من رأى الأمور الموجودة في مكانه وزمانه؛ كانت عنده من الحسيات المشاهدات، وهي عند من علمها بالتواتر من الأخبار المتواترة، وقد يكون بعض الناس إنما علمها بخبر ظني؛ فتكون عنده من باب الظنيات، فإن لم يسمعها فهي عنده من باب المجهولات، وكذلك العقليات؛ فإن الناس يتفاوتون في الإدراك، وللبعض من العلم البديهي عنده والضروري ما ينفيه غيره أو يشك فيه"[92].


فليس هناك قضايا أولية عند كل أحد، أو مشهورة عند كل أحد، وإنما ذلك أمر نسبي بحسب أحوال الناس، وبحسب قوة التصور، فإذا كان تصور الشيء تاماً كان يقينياً؛ وإذا كان ناقصاً اعتبر مظنوناً.

ومن كان يرى نسبية المعرفة العقلية؛ فهو لا يشك فيها مطلقاً، وإنما يشك في صحة الأحكام العقلية المعارضة لغيرها مما هو أقوى منها، فالأخذ بالمعرفة العقلية مشروط بانتفاء المعارض الراجح سواء أكان حسياً أو عقلياً[93]. فكل من وجد في نفسه علماً بأحد طرق العلم؛ فهو عالم بما حصل في قلبه من سكون لما علمه، ودرجة العلم ومرتبته ذاتية في كل فرد، وتتفاوت داخله ومع غيره.


فنسبية العقول أحد أكبر الأدلة في تحديد قدرات العقل، وأن له مجالاً لا يخرج عنه؛ هو عالم الشهادة المخلوق، فالعقل لا يدرك إلا ما تنقله الحواس؛ إما من الكون المشهود أو من الوحي. وما كان وجوده ذهنياً محضً فلا وجود له بالخارج. وافتراضات العقل مبنية على أساس لابد أن يكون محسوساً.

 


[1] أصول الدين: البغدادي. ص8.

[2] الصواعق المرسلة: ابن القيم. ج3، ص958.
المنقذ من الضلال: أبي حامد الغزالي. ص (87-79).

[3] الكليات: الكفوي . ص45.

[4] إحياء علوم الدين: أبي حامد الغزالي. ج3، ص4.

[5] معرفة القرآن: مرتضي المطهري. ص91.
نقلا عن: نظرية المعرفة في القرآن الكريم: أحمد الدغشي. ص239.

[6] فتح الباري: ابن حجر.ج1، ص129.

[7] مجموع الفتاوى: ابن تيمية. ج9، ص303.

[8] مفاتيح الغيب: الرازي. ج13، ص46.

[9] المرجع نفسه: ج5، ص184.

[10] مفتاح دار السعادة: ابن القيم. ص230.

[11] جامع الأحكام: القرطبي. ج12، ص77.

[12] جامع البيان: الطبري. ج1، ص436.

[13] تفسير القرءان العظيم: ابن كثير.ج 3، ص227.

[14] فتح البيان: صديق خان. ج9، ص110.

[15] تفسير التحرير والتنوير: ابن عاشور. ج7، ص232.

[16] حاشية الشهاب: البيضاوي. ج6، ص526.

[17] دليل الميزان: الطباطباني. ج14، ص390.

[18] العدة في أصول الفقه: أبي يعلى محمد الفراء الحنبلي؛ تح: أحمد بن علي سيد المباركي. دار النفائس: الرياض. ط(3)، 1994. ص(29-93).

[19] الكليات: الكفوي. ص615.

[20] بصائر ذوي التمييز: الفيروز آبادي . ج4، ص85.

[21] القلب ووظائفه: سلمان اليماني. ص46.

[22] المفردات: الراغب. ص386.

[23] الكليات: الكفوي. ص904.

[24] التعريفات: الجرجاني. ص173.

[25] الكليات: الكفوي. ص618.

[26] معجم دقائق اللغة العربية؛ جامع أسرار اللغة وخصائصها: أمين آل ناصر الدين. مكتبة لبنان: بيروت. ط(1)، 1997. ص69.

[27] المرجع نفسه: ص59.

[28] معارج التفكر ودقائق التدبر: عبد الرحمن حبكنة الميداني. ج4، ص46.

[29] المفردات: الراغب. ص386.

[30] القلب ووظائفه: سلمان اليماني. ص417.

[31] هو إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو: ولد في إحدى قرى شيراز عام 148هـ، وقدم البصرة، فلزم الخليل ففاقه، ورحل إلى بغداد، فناظر الكسائي، وأجازه الرشيد بعشرة آلاف درهم، صنف كتابه المسمى "كتاب سيبويه" في النحو، ولم يصنع قبله ولا بعده مثله. فقه اللغة وسر العربية: أبي منصور الثعالبي. ص459.

[32] لسان العرب: ابن منظور. ج11، ص154.

[33] الإنسان والعقل: نايف معروف. سبيل الرشاد: بيروت. ط(1)، 1995.ص125.

[34] القلب ووظائفه: سلمان اليماني. ص425.

[35] إقرأ وربك الأكرم: جودت سعيد . ص122.

[36] المعرفة في منهج القرآن الكريم: صابر طعيمة. ص143.

[37] نظرية المعرفة بين القرءان والفلسفة: راجح الكردي . ص604 .

[38] تيسير الكريم الرحمن: السعدي . ص36.

[39] مدارك التنزيل وحقائق التأويل: أبي بركات عبد الله بن أحمد بن محمد النسفي؛ تح: مجدي بن منصور سيد الشوري. دار الفكر: بيروت. د ت . ج1، ص48.

[40] زاد المسير: ابن الجوزي. ص149.

[41] المفردات: الراغب. ص340.

[42] الأذكياء: ابن الجوزي. ص 10.

[43] تيسير الكريم الرحمن: السعدي. ص742.

[44] مجموع الفتاوي: ابن تيمية. ج9، ص303.

[45] فالثابت عند كل إنسان هو العقل الغريزي ؛ وهو قاسم مشترك في الناس لا فضيلة في تحصيله؛ إذ هو موهوب موجود لدى الجميع. والمتغير هو العقل الاكتسابي؛ وهذا يقع فيه التفاضل بقدر ما يحصل الإنسان من العلوم، و بقدر ما يسموا عقله ويكتمل، وينقص بقدر ما يفرط في اكتساب العلوم، فالتفاوت في التحصيل يؤدي إلى تفاوت العقول. تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية: إبراهيم عقيلي. ص298.

[46] الفروق اللغوية: أبي هلال العسكري. ص 22.

[47] التعقل شيء غير الإحساس، فالإحساس هو شعور الكائن بانفعال؛ أو تغير فيه، نتيجة مثير خارجي أو داخلي. بينما الإدراك هو العملية العقلية التي تتم بواسطتها معرفتنا بالعالم؛ عن طريق التنبيهات الحسية أو التأملات الذاتية. والعلاقة بين العقل والمخ وكيفية عمله أمر لا تحديد له ولا إحاطة به، فهل العقل في المخ أم في القلب؟
عقل الإنسان في الفلسفة والطب والقرآن: أسعد السحمراني، أحمد كنعان.دار النفائس: دمشق. ط(2)، 2005. ص 18.

[48] حاول البعض التفريق بين مفهوم " التفكر" و" التفكير"، فجعل "التفكير" للبهائم، و"الفكر" للبشر. وذلك ما لم نجده في معاجم اللغة بل صيغة " تفعيل" للمصدر " فكر" غير واردة على نحو ما ذكر، ولم يخرج معناها عن مدلول المصدر، فالفكر كما قال غير واحد لا يكون إلا للإنسان. وهذا شطط كبير، والأولى البحث عن مصطلح آخر يوحد بين ما يشترك فيه الإنسان وغيره من الحيوان، لأن مفهوم " فكر" لا يستوعب إدخال البهائم في معناه!!

[49] صحاح اللغة: الجوهري. ج3، ص173.

[50] جمهرة اللغة: ابن دريد. ج3، ص401.

[51] المفردات: الراغب. ص386.

[52] مفهوم العقل والقلب: على الجوزو. ص110.

[53] مجموعة القصور العوالي، روضة الطالبين وعمدة السالكين: أبي حامد الغزالي. ج4، ص(117-118).  نقلا من: نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة: راجح الكردي .ص 634.

[54] مدارج السالكين: ابن القيم . ص 142.

[55] الفروق الشرعية واللغوية عند ابن القيم الجوزية: أبي عبد الرحمن علي بن إسماعيل القاضي . دار ابن القيم: الرياض. ط(1)، 2003. ص286.

[56] الكليات: الكفوي. ص 287.

[57] تهذيب اللغة: الأزهري. ج13، ص 114.

[58] الكشاف: الزمخشري. ج1، ص546.

[59] تهذيب اللغة: الأزهري. ج5، ص405.

[60] مجمل اللغة: ابن فارس. ج3، ص703.

[61] الفائق في غريب الحديث:محمود بن عمر الزمخشري؛ تح: محمد أبي الفضل إبراهيم، علي محمد البجاوي . دار الحلبي: بيروت.ط( )، دت. ج3، ص 124.

[62] بصائر ذوي التمييز: الفيروز آبادي. ج4، ص21.

[63] الكشاف: الزمخشري. ج1، ص545.

[64] زبدة التفسير: سليمان الأشقر. ص298.

[65] تيسير الكريم الرحمن: السعدي. ص 324.

[66] الكليات: الكفوي . ص290.

[67] تيسير الكريم الرحمن: السعدي. ص333.

[68] إحياء علوم الدين: أبي حامد الغزالي. ج1، ص45.

[69] معجم ألفاظ العلم والمعرفة: عادل زاير. ص 199.

[70] المفردات: الراغب. ص25.

[71] يقصد أهل التصوف.

[72] مدارج السالكين: ابن القيم. ص( 127-130).

[73] معجم ألفاظ العلم والمعرفة: عادل زاير. ص57.

[74] الكليات: الكفوي . ص 904.

[75] المغني: القاضي عبد الجبار. ج 12، ص ( 5-7).

فالقلب هو المفكر والناظر، وأقوى دليل على كون الإنسان مفكرا وناظرا وعاقلا ومميزا؛ ما يجده في نفسه من ذلك كله؛ لأنه يستبين الفروق ويوقن بالنشاطات الداخلية به الفزيولوجية العضوية، أو النفسية، أوالإدراكية، فهو يفرق بين كونه معتقدا ( نشاط علمي) وبين كونه مريدا (نشاط نفسي)، والجدال حول"ما يشعر أحدنا في نفسه" مراء ومكابرة. فالتفكير متضمن لوجود نفس مدركة ومريدة، ووجودها يستلزم التفكير، كما أن "الوجود" علة تستلزم حصول العلم، و"حصول العلم" ضمنيا يثبت "وجوداً".

[76] إعلام الموقعين: ابن القيم. ج1، ص22.

[77] جامع البيان: االطبري. ج5، ص115.

[78] المفردات: الراغب. ص191.

[79] الكليات: الكفوي. ص481.

[80] إعلام الموقعين: ابن القيم .ج 2، ص162.

[81] هو أبو زكرياء يحي بن زياد، إمام الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب، ولد في الكوفة 144هـ، وانتقل إلى بغداد، وعهد إليه المأمون بتربية ابنيه، عاش فيها بقية عمره. وتوفي في طريق مكة 203هـ. كان مع تقدمه في اللغة، فقيها متكلما، عالما بأيام العرب وأخبارها عارفا بالنجوم والطب. – فقه اللغة: الثعالبي. ص466.

[82] تهذيب اللغة: الأزهري. ج2، 162.

[83] إمام من أئمة اللغة، وصاحب معجم الصحاح، وخطه يذكر مع خط ابن مقلة، أصله من فاراب (وراء نهر سيحون في تخوم بلاد الترك) وخاله الفارابي (صاحب ديوان الأدب)، تنقل بين العراق والحجاز وخراسان، ثم أقام بنيسابور،حاول الطيران لكنه سقط على الأرض قتيلا سنة 393هـ، وكتابه "الصحاح" أحسن أصول اللغة ترتيبا. – المرجع نفسه: ص454.

[84] صحاح اللغة: الجوهري. ج2، ص664.

[85] المفردات: الراغب. ص177.

[86] معجم دقائق العربية: الأمير أمين آل ناصر الدين. ص59.

[87] معجم ألفاظ العلم والمعرفة: عادل عبد الجبار زاير. ص90.

[88] جامع البيان: الطبري. ج27، ص201.

[89] نظرية المعرفة بين القرءان والفلسفة: راجح الكردي. ص640.

[90] مدارج السالكين: ابن القيم . ص (440-445).

[91] معارج التفكر ودقائق التدبر: عبد الرحمن حبكنة الميداني. ج 4، ص (63-63).

[92] درء تعارض العقل والنقل: ابن تيمية. ص(13- 14).

[93] تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية: إبراهيم عقيلي. ص304.


تم عمل هذا الموقع بواسطة