هكذا صرخ المجنون


صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
1
هكذا..
صرخ المجنون 􀀷
إيهاب بابكرعدلان
2
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
هكذا..صرخ المجنون
المؤلف : إيهاب بابكرعدلان
تصميم الغلاف : صابرين مهران
الإخراج الفنى : صفوت بسطا
توزيع السودان: أماني أبو الريش
00249118776697
البيع أون لاين
http://www.neelwafurat.com
الطبعة الأولي: يناير 2016 م
2015 / رقم الإيداع : 27702
978-977-769- 109 - الترقيم الدولي : 3
جميع حقوق الطبع محفوظه
الناشر: أوراق للنشر والتوزيع
awraaq@live.com
446 شارع الهرم – أبراج نصر الدين
– عمارة 3 – الدور 11
ت : 01221110435
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
3
إلى أيقونتى وانجا..
وهى تُسرحُ ضفيرةَ الحقلِ بيدِها
وتُعلنُ للعالمِ ميلاد طلقٍ جديد!.
الإهداء:
4
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
5
كثُرَ الحديثُ عن ذلك الرجلِ المجنونِ، الذي يظهر للناس فجأةً،
ويقولُ كلاماً غريباً ثم يختفي. لا أحد يعلم من يكون ذاك الغريبَ،
وأين يعيش، ومن أين يظهرُ، وماذا يحملُ فى مُخلاتهِ تلك من أشياء!.
وكانت البدايةُ؛ عندما جاء رجلٌ غريبٌ إلى واحدٍ من أكبر الأسواقِ
الشعبيةِ فى مدينة الخرطوم فى السودان. بكامل أجهزتهِ التناسلية جاء،
ونصف الذاكرة. يحملُ مُخلاةً جلديةً على كتفهِ لا يعلم أحدٌ ما بداخلها.
.« ! حُلمٌ دائمٌ » تكلم للناس عن الجنون وقال بأنهُ
وأن المجنون ليس كما يتوقعونهُ، بل هو أكثرُ وعياً من صديقِه أسامة
الذى كرمهُ ناظرُ المدرسةِ لذكائهِ. نظروا إلى مكان عضوه الذكرى
وتجاهلوا كلامَه. قال لهم أيضاً:
إن الصداقة هى أكثرُ أشكال البرغماتية تطرفاً، لأنها انتهازية توفر »
المصلحةَ الأقصى. وهذه واحدة من وَهمِ القيمِ المؤنسنة في تاريخ
فصل السودان
6
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
.« البشر المعبأ بالحروب، والكراهية، ومُعسكرات الموت
وأن التغوطَ فعلُ متعةٍ، وما نكرانكم ذلك سوى الدليلِ على رضوخِكم
الطفولى لشبكة القيم. القيم التى تكونونها بسوءها ولا تعرفون ذاك.
القيم التى تخدُم الخطابَ. فلا زالت الفتاةُ غيرَ المختونةِ فى وعاء
لغتكم والذاكرة تسمونها غلفاءَ، أليس كذلك؟
أم أنكم الآن تتأففون لغتى هذه؟
إذ كيف - وحق التصنيف - تتأففون من لغةٍ أنتم الذين أنتجتموها، »
.« !؟ ونحتم لها المعنى
ثم صرخ فيهم وهم فاغرون أفواههم يستمعون:
أنتم الآن تتهموننى بالشذوذ، ربما أو بالجنون، أعرفُ ذلك. أعلم »
أنكم تفعلون. وأنا أضحك عليكم بسخرية.
سخرية من وضعكم أمام المرآة لأول مرة. ابتسم ابتسامةً ماكرةً،
.« فأنتم منافقون كما كنتم دائماً وكما كنتُ أنا
رموه بالحجارة وسبوا أباه وأمَهُ الطيبةِ. مسح دماه من على جبينهِ
عن النافلِ من القيم كمعوق. عن ،« الإنسان والسلام » وحدثهم عن
أكذوبة الوطن وحقيقةِ الفشل. قال لهم:
ثم .« إن الشربوت هو البديل المهذب اجتماعياً للخمور البلدية »
صرخ سائلاً:
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
7
لماذا إذاً كل هذا النقيق على كوخ ميرى واعتقالها؟. هل السبب »
ياترى أن خمورها مصحوبة بالعصيدة، وشربوتكم مُلصقٌ بلحم الضأن؟
أم إنهُ النفاق المُهذب؟ ..
صاحوا:
أين البوليس ليقبض على هذا المعتوه الذى لا نعرف ماذا يقول! »

أخبرهم:
إن البوليسَ هو الضحيةُ الأولى، وأن خالتى بائعة الشاى ليست »
.« داعرةً كما يراها معظمكم. والشماسة هم أصدقائى
يسألهُ أحدهم. فيجيبهُ المجنونُ بسرعة: .« ؟ وماذا تريد أن تقول »
أريد ان أقول إن الحصى أصبح يشتهى تقبيل أقدمِ المسيرات، »
لطلاب كلية الفنون الجميلة لوحاتٌ يجب .« الأمهات ومعارض الكتاب
أن تُعرض. لكم أحلامٌ جهيضةٌ تحتاجونها أن توُلد من جديد.
.( افهموا جون بول سارتر، واسمعوا حميد( 1
.« اخلعوا ثوب الكبرياء عن حبيباتكم، ليسرنّ معكم والطريق
يسأل رجلُ من بعيد، يجيبهُ دون أن ينظرَ .« ؟ ومن أين جئت »
إليهِ:
1956 م)، كان مناضلاً محبا للإنسانية ومناصرا للعدالة _ 1) محمد الحسن سالم حميد، شاعر سوداني ( 2012 )
الاجتماعية، مما جعل له شعبية كبيرة في كل طبقات المجتمع.
8
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
جئتُ من كبتكم وتناقض الشارعِ. أنا صرْختكُم التى أدختموها »
طويلاً أكون. أناكم المُتحررُ منكم ليكونكم وعياً من جديدٍ!.
فاحفروا عميقاً لتعرِفوا، اقرأوا كثيراً لتكتبوا.
ولتعلموا أن مدينةَ جنيف ليست أعظمَ من الخرطوم، وإنما هو
اختلافُ إدارة التاريخ، ليصنعَ من الأولى مُبتغىً، ومن الثانية منفى
برغم الاناكوندا النيل.!
قال الرجلُ الغريبُ ذلك ثم حمل مُخلاتَهُ وغادر إلى اللامكان. تاركاً
الجمُوع تغالطُ بعضها.
ومن يومِها؛ أصبح الرجلُ الغريبُ يظهر للناس فجأةً وفى أى مكان،
يقول الذى يخشاه الجميع ويختفى، يخرجُ من تناقضك والرغبات، من
شهادتك الجامعية التى تلعُنها كلما شاهدتَ صورة تخرجك المُعلقة
على الحائط والعطالة، من مسبحةِ جدِك التى سيورثها إياك، وغلافِ
كتاب التاريخ.
من هاتفك المحمول يخرجُ، من طرحة الحبيبةِ وحلمُك بالسفرِ
المستحيل، يتجولُ بين الناس ويهمسُ بالحقيقةِ، فقد قال يوماً:
الوطنُ لا يعدو سوى أن يكون فكرةً، مجرد ذاكرة رسمتها طفولتنا »
فى بواكيرها ونحن نلعبُ مع صبيةِ حينا الصغير، الذى نعرف حمامَهُ،
وشكلَ الشوارع.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
9
نحفظ أشجارَهُ واحدةً واحدةً عن ظهر عصافير، صوتَ جارتنا وسورَ
المدرسة، ملامح صاحب الدكان، وأصدقاء الطفولة، الناظر ذا النظارة
الطبية وأستاذة سهام، رائحة أبى المزيج من االتنباك وورق كتاب
المُطالعة، شاى أمى عند الصباح وصياح ديكٍ فى آخر الحى.
من هنا يأتى الانتماء يا سادة. فى اقتران تلك التفاصيل بصدفة توزيع
الجغرافيا وإنتاج القيمِ، وهذا يعنى، إن كان يمكن أن تستميت أنت
دفاعاً عن لحم الكلاب كعنصر وجبة شعبية فى وطنك، إن كنت قد
.« ! ولدت بمدينة يولين فى جنون الصين
تساءل بعضهم وهم ينفضون أكفهم.. فلم يجبهم سوى بالقول:
إن أجملَ قصة حبٍ فى زماننا، تقف خجولةً أمام مشهد عصفورين »
يداعبان بعضهما بمنقارهما الصغيرين من فوق سعفِ النخلة الوحيدةِ
.« ! التى على الجرف
تعجب الناسُ ولم يُوالوه اهتماماً حينها. ضحك عليه بعضهم واستهزأ
آخرون. قال شابٌ لرفيقه مُتعجباً وهو يضحك:
.« ؟ هل سمعت الذى قالهُ هذا المجنون »
.« أوه ، دعك منه .. فكُلنا مجانين بطرقٍ أخرى يا صاحْ »
بهذا أجابهُ صديقهُ ثم حادا عن الطريق. أخرج الرجلُ الغريبُ من
مُخلاتهِ ناياً وعزف مقطوعة ”الراعى الوحيد“ لزامفير وغادر صوب
10
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
البحر.
ومن وقتها، أصبح الناس يتسقطون أخبارَه، ويتداولون جملَهُ
والعبارات. نُسجت حولهُ الأساطيرُ وأحابيل الأقاويل.
قال عنه نسوةٌ من المدينةِ إنهُ شابٌ صالحٌ. حفظ كتاب الله دون
السابعةِ وعرَف سر الكون. خرج إلى الفيافى يدعو الناس ولكنَّ عينا
أصابتهُ. فأضحى يهيمُ على وجههِ فى بقاع الأرضِ. يظهرُ هنا وهناك
ويختفى. يخطُب فى الناسِ، ويقولُ كلاماً عجيباً غريباً لا يفهمهُ أحدٌ!.
وبعد أقل من أسبوع من تلك الحادثِة، وفى الموقف العام لحافلات
نقل الرُكاب وسط مدينة الخرطوم. وفى ظل تلك الزحمة التى يشهدُها
بعد الدوام الرسمى للموظفين والطلاب، سمع الناسُ صوتَ رجلٍ يُردد
قصيدة بصوتٍ جهور. تجمهروا حولَهُ، فكان ذلك هو ذات الغريبِ الذى
سمعوا عنه.
سار أمام دهشةِ وحيرةِ الجميع، وصعدَ فوقَ سطحِ حافلةِ نقل الركاب.
نفض يديه ثم صاحَ فيهم وسط السوق قائلاً:
يالِسخفِكم هذا، وجُرح الذى تجهلون يا سادتى. فهل تعرِفون »
ما العلاقة بين قلمِ وزير الداخليةِ، وأطفال السِلسيون أمام سينماتِكم
.«؟ القديمةِ التى لم تشهدْ عرضاً واحداً يستحقُ التصفيقَ
هى علاقةُ المُخلف أيها السادة، أمعاء الشوارع والغليظ من مُصران
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
11
السياسة فى ڤلل جوقة السلطة، تغوطتهم بُرازاً آدمياً تتأفف منه أنوفكم
المُعطانة بزكام الوصايا.
أنتم الذين أنتجتُمُوهم كما أنتجتُم الحكومةَ التى تتذمرون الآن منها.
لأن الظواهر الاجتماعية ترتبط جدلياً بالسلطة وتُعزّزها. ذات السلطةِ
هى التى تفرزها لتدعم ذاتها المُتحوصلة فى علاقات الإنتاجِ.
ولهذا، أنتم الآن تعيشون خارجَ ذاكرةِ التاريخ يا سادتى. وحاكمكم
الغبى قد دخلهُ بأوسع أبوابه. قتلكم المللُ والوعود الخواء، قتلتكم
أقراص التخديرِ الُمؤقت التى يصرفونها لكم فى قِنينات الشعارات.
كل أحلامِكم أصبحت تتعلق بعقدِ عملٍ فى بلاد النفط، وأخواتكم
يحلمنّ بعريس!.
فهل تفهمون الذى أعنى؟.
.« ؟ أم أنكم بجبن حتى لا تنظروا لذواتِكم وهذا القرفِ
.« هذا الرجل مجنونٌ، وسيجلب لنا المشاكلَ » -
صاحَ موظفٌ حكومى بدين من بين الجموع، خشىّ على فقدان
وظيفته. قال له الرجل الغريبُ وهو مبتسمٌ بتهكمٍ:
الجنون يا صاحْ هو أن تأخذ المعاش بعد قضاء خمسين عاماً فى »
وظيفةِ، لتجد نفسَك فى قريةٍ ريفية منسية، تتمنى الموت قبل أن
تتذوق مرارةَ وصولك إلي المرحاض.
12
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
هو التناقضُ، بين حلِمك وواقعك المُميت..
وظيفتك لا ترضيَك، وخوفك عليها مُداهنةٌ.
وأنت تعلمُ مُفارقة أن ما يتقاضاهُ أصغرُ فنانيكم الشعبيين، فى حفلةٍ
واحدة لجاليتكم التعيسة فى الخليج، يعادل راتبك لمدة عامين أو
.« يزيد
أنزلَ المُوظفُ غصةً صعدت فى حلقهِ. سألت امرأةٌ ترتدى عباءةً:
.« ؟ حسناً أيها المجهول، ما أعمل » -
أجابها، ثم أضاف: ..« الوعى بالأشياء لينتج فعلاً موزايا »
إن بحثَكم عن النكتةِ لا يبرر غباءَ استخدامكم لوسائل التواصلِ »
الاجتماعى، كما أن صورَ المشاهدِ الجنسية التى تتداولونها فى بريدكم
الخاص لا تُحيلُ إلى الانهيارِ القيمى فى المجتمع كما تتوهمون، إذ أن
تاريخَكم الوطنى ليس بطهارةِ مريم!.
بل هو نتيجةُ فراغٍ مُخيفٍ لديكم، عمق الهوةَ بين تصورِكَ الجميلِ »
لذاتك الذى تريد أن تكونَهُ، ونخرت سوسةُ الإحباطِ على شُعبة آمالكم
لِتُحيل دون ذلك. قمع رغبات الجسد ومُتنفس الكبت لديكم، فلا
الأشياء كما ترونها تبدو. ولا النهرَ قد ترك ضفتَيهِ ليلتحق بالخدمةِ
.« ! العسكرية
سمع الناسُ فجأةً صوتَ صفير إنذار عالٍ.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
13
صاحَ أحدُهم. .« إنه البوليس، إنه البوليس قادم »
عمت الفوضى وتفرق الناس. وعندما وصل البوليس إلى مكان الحدث،
لم يكن الغريبُ هناك.
بالرجل » تناقلت هذه الأحدوثَة بعضُ الصحف المحلية، ونعتوهُ
من حينها. وربما كان ذاك العمودُ، الذى خطّهُ ذلك الصحفى « المجنون
المرمُوق فى واحدة من أكبر الصحف اليومية فى البلاد، قد لفت
الانتباهَ إلى هذا الرجل المجنون أكثر.
فبعد تحليلهِ لبعض الجملِ التى قالها، ومحاولَتهِ وضعَها فى إطارِها
المعرفى الصحيح، كتب فى خاتمة مقالهِ قائلاً:
.«! إن هذا الرجلَ الذى ندعوه بالمجنون هو أعقلنا جميعاً »
وهكذا، أضحى هذا المجنونُ يسيرُ فى الطرقاتِ والأسواق، يظهُر هنا
ويُسمع عنه هناك، يخطبُ فى الناس ويمضى إلى المجهول.
وفى ذات يوم، وعلى أصابعِ نهارٍ مُخضبٍ بظلالِ غيمةٍ عابرة، روى
مُوظفٌ حكومى عجوزٌ أنهُ:
بينما كان يجلسُ تحت شجرةِ اللبخٍ القديمةِ يرتب همومَهُ، وعلى »
مقعدٍ قرب بائعةِ الشاى، ينظرُ إلى المنقدِ الصغيرِ الذى به جمراتٌ
تحترق بتثاقلٍ لتذيبَ ماءَ البرادِ مع حبات الشاى حد المزاج. يحملُ
مسبحَتهُ التى يديرها ببطءٍ بين أصابع يدهِ. ويُفكرُ فى نفسهِ إن كان
14
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
فاشلاً فى الحياة!.
يقول الموظفُ العجوز: ..« تنهدتُ طويلًا »
« ولم أكن أبداً مستمتعاً بجلستى تلك »
ثم فجأة خرج لهُ الرجل المجنون من خلف جذعِ شجرة اللبخِ
الضخمة، جلس قربهُ، ووضع مُخلاتهُ أمامهُ، ثم طلب قهوةً من غير
سكرٍ وقال لهُ:
.« ؟ هل تعتقد أنه لو كان لليمون اسمٌ آخر، سيكون له نفس الطعم »
قال المُوظف. .« سألتهُ بتعجب » .« ؟ ماذا تعنى »
أعنى أن الطعمية هى نفسها، أليس كذلك؟، اسمها يعُادلها تماماً »
فى ذاكرتك، لأنه لا يمكنُ أن تتخيلَ لها اسماً آخر، كأن تكون موزةً مثلاً
ثم واصل المجنون وهو يرتشف من فنجانهُ: ،« ! أو حاجبًا
كما أنت يا صديق، فشخصُك واسمُك متشابهان حد التلاصقِ، »
وهذا التلاصقُ بينك واسمك مُوهوم بالتكرار والانطباعِ.
فزوجتُك تكون ذاتُها باسمها، لأن كوثر هى كوثر، رغم أنه كان يمكن
أن تكونَ سعاد أو مى لو أن أباها أعطاها اسماً آخر، وكان سيكون أيضاً
.« يشبهها تماماً ويكونها بالانطباع
قال الموظف- فقلتُ لهُ وأنا أحكُ فروةَ رأسى: .« فتلعثمتُ صدقاً »
.« ؟ نعم نعم!، ولكن لماذا تقولُ لى هذا الكلام » صرخ
المجنون 􀀷 هكذا..
15
لتعرفَ أن القهوةَ هى ليست سوى طقسها يا صديقى لا مفرد »
طعم، وتستمتعُ بهذه التفاصيل أكثر!، فالأشياء هى مُجمل تفاصيلُها
التى لو فُقد أحدها أصبحت أُخر، واللغةُ هى حاملُ دلالةِ تلك التفاصيل
كمسمى، فليس هناك فشلٌ فى الحياة، بل هناك عثراتٌ فى طريق
.« النجاح تصبحُ فشلاً إن أعيد تكرارُها !
بذا أجابهُ المجنون وهو يرتشفُ آخرِ غصةٍ من قهوتهِ، ثم نهض من
مكانهِ مغادراً جهة السوق، تاركاً إياه وبائعةَ الشاى التى كانت تسترقُ
السمعَ فى حيرة.
سار على الطريقِ الطويل، ثم دخل مطعماً للوجبات الشعبية.. طلب
وجبتهُ الخفيفةِ، وبعد تناولها، وعلى الطاولةِ التى أمامهُ مباشرةً. كان
هناك رجلان قد خلصا لتوهما من وجبةِ العدسِ المقدوح مع كبدة
الضأن المشوية.
قال الرجلُ البدين لصديقه. ..« أوه!، لم أشبعْ يا رجل »
نعم!، إن هذا الطبقَ لذيذٌ، أخشى إن طلبت طبقاً آخر ألا يكون »
أجابهُ رفيقهُ . ..« بذات المتعة
.« .. أممم!.. ربما، لستُ أدرى ولكن »
وقبل أن يتمَ كلامُهُ سمعا صوتا خلفهما يقول:
.« نعم!.. لن يكونَ بنفسِ لذةِ الطبقِ الأول » 16
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
التفتا جهةَ الصوتِ، كان ذلك هو الرجل المجنون نفسهُ، الذى سمعا
عنهُ.. كان يغسلُ يديهِ فى الحوض المُوضوع على الحائط.. نظرا إلى
بعضهما.. أضاف المجنون دون أن ينظر إليهما، وهو يمسح لحيتهُ
الخفيفة بيدهِ المُبتلة أمام المرآةِ:
إن الطبقَ الثانى من أى وجبةِ لن يكون بروعةِ الطبقِ الأول بأى »
حال، والسبب فى ذلك هو تقلُصُ شرطِ الاشتهاء. والاشتهاءُ هو الحوجةُ
.« ! البيولوجية حين يتوجها العامل النفسى
ثم نظر إلى الرجل البدين أمامهُ فى المرآةِ وهو يقول:
ولأن الأكلَ فعلُ متعةٍ، كان حضورُ سلطةِ الجرجيرِ مهماً فى أطباقِ »
الوجباتِ اللذيذةِ، لأنها تُشكل ضامناً مرحلياً لاستمرار الاشتهاء أطول
.«! فترةٍ ممكنةٍ أثناء الطعام
ثم عدل المجنونُ مُخلاتَهُ فوق كتفهِ، وغادر وهو يُصفر بلحنٍ لأغنيةِ
معروفةٍ، حتى غاب عنهم بين المشاة المُسرعين.. وهما يتتبعانهُ عاقدا
حاجبيهما مُتعجبين.
وفى طريقهِ إلى اللامعلوم، وقف عند كشك الجرائد الذى على زاوية
الشارع.. كان يتمعن عناوين صحف اليوم، الأحداث والمُناسبات.
قرأ عنواناً بخطٍ عريضٍ فى إحداها يقول:
.« اليوم سيكون عقدُ قرانِ الفتاةِ التى رفضت ابن عمها قسراً » صرخ
المجنون 􀀷 هكذا..
17
طوى الصحيفةَ من نصفها، ثم دفع للبائع وأدخلها فى جيبهِ وغادر
إلى عنوان بيت المُناسبةِ.
داخل الباص، كان هناك شخصان يجلسان فى المقعد قربهُ يتبادلان
بصوتٍ مسمُوعٍ أطرافَ الحديث عن فكرةِ الزواج، قال أحدهما لزميلهِ:
.« أتعلم؟!، لا أريدُ أن أفقدها، ولكنى أخاف فكرةِ الزواجِ ذاتها »
أجابَهُ زميلهُ. ..« أعتقدُ أنك ستتزوجها لأنها أكثرهنّ حباً لك »
قال لهما الرجل المجنون وهو يشيرُ إلى السائق بالتوقف:
نعم!، فالزواج هو خطوةٌ نخطوها حين نخاف فقدان من نُحِب، »
وأن واحدة من أكبر عيوبهِ أنهُ دوماً يقتلُ الفرصةَ لنجد الذين يشبهوننا
و نظر إلى زميلهِ الجالسِ قربهُ، وقال لهُ: ..« ! أكثر
ثم إن الفتاةَ التى ستصبحُ زوجتك من بين جميع اللواتى أحببنك »
فى الماضى، ليست هى الأكثرَ حباً لك منهنّ، بل هى الأكثر إصراراً
.« منهنّ لتكونا فى بيتٍ واحدٍ يا صديقى
ثم ابتسم إليهما وهو يتدلى من سلم الباص فى مكان المُناسبة..
كانت لحظة طقوس عقدِ القرانِ تحديداً.. البيت الكبير لإحدى الأسر
المُحافظة والتى تتمتع بمكانةٍ اجتماعيةٍ مُعتبرةٍ.
وفى خضمِ ذلك الهدوءِ الذى يُخيمُ على المكان فى مثل هذه
اللحظاتِ.. رفع المجنون يدهُ للحضورِ فى الصوانِ المنصوبِ فى الشارعِ
18
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
مُحيياً.. ثم جلس على مقعد خالٍ نهاية الخيمة.. بدأ المأذون بقراءة
الشعائرِ قبل أن يتوقفَ على صوتِ جلبةٍ وصِياحٍ داخلَ البيت. خرجت
امرأةٌ تنادى على والد الفتاةِ. تهامس الحضورُ، قال أحدهم لرفيقهِ
بصوت مسموعٍ:
.«! يقولون إن العروسَ حاولت الانتحارَ لولا تدخُل خالتها »
يهزُ رفيقهُ كتفَيه تعجباً، ويرمق المجنون بنظرة تشكك.. يعلو الصوت
فى الداخل أكثر، يدورُ لغط بين الحضور، وبطريقةٍ ما تجسد المجنون
لسان الفتاة، خرجت على الصيوانِ المنصوبِ فى شارع البيتِ، وهى
تُقاوم أمَها وصُحيباتِها اللواتى يحاولنّ إعادتها إلى الداخلِ.
بَرَزتْ عينا المأذون والحضور من حدقاتها مذهُلين من تصرف يُعتبر
من النساءِ فى هذه الحالاتِ جريمةً.. وقفت فى وسطهِم، ثم صرخت
فيهم على الملأ قائلة:
( وروعة كليوباترا وأمانى شخيتو  لو عرفتم كيف كانت الكنداكات( 2 »
هنا يُدِرنّ العالمَ قبل ألفي عامٍ، لتوقفْتُم يا سادتى عن كتابة هذه
الورقةِ التى تجمعنى مع رجلٍ لا شيءَ يجمعنى بهِ سوى (جِين) هو
كرومزوم الوراثة، ولعرفتُم حينها أن المرأةَ أكثرُ قيمةً من اختزالها فى
.« ذاكرةِ سرير
2) كنداكة هو لقب الملكات الحاكمات، او مُسمى يعنى الزوجة الملكية الاولى فى حضارة كوش الافريقية )
القديمة. والتى عُرفت ايضاً بالحضارة النوبية.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
19
ثم التفتت إلى أبيها الغارقِ فى دهشتهِ وصاحتْ فيهِ:
هو الخيارُ  يا أبى  وما شاء لى به القلبُ، أُبوتك لى لا تمنحُك »
حقَ تحديد مصيرى. كما أن أبنيتى لك لا تُلزمُنى الرضوخَ لشروطٍ ضدى
.« أنا!، لآخرين وأنت منهم امتياز
نهرها أحدهم. ..« اسكتى يا حُرمة، ادخلى البيتَ لعنةُ اللهِ عليك »
ابتسمتْ فى وجههِ بسخريةٍ، وقالت لهُ:
أنا لستُ حُرمَة يا هذا، أنا الحقلُ على صفحةِ التاريخِ كنتُ، و رمزَ »
العطاء..
سحابُ البُحيرات الخفيفِ أنا ومُلهمةُ دافنشى..
كنتُ سالومى لنيتشه والوطن لدرويش.
وبين الأفعى النيل، ومروى كنتُ كنداكةً تعرفُنى الليالى المُقمرةُ
هناك، ويُكنوننى ب(أمانى) نسباً للإلهِ أمون راع قدسيةً ورِفعةً.
فلا تُجحِفنى  وجمال نِيفرتيتى  فى الجلاليبِ النفاقِ، ولا تُكبسلُنى
كياناً تافهاً فى عورةٍ لم توجدْ قط سوى فى أدمغتكم المُعطانة بِزُكامِ
التاريخ
« سبحان اللهِ! عما يصفون، واحد يوقف البنت المجنونة دي »
.. قال رجلٌ وهو ينفضُ كفِيهِ بحيرةٍ.
قالت له وهى تُبعِدُ عنها يدَ ..« الجنونُ هو مخافتكُم والحقيقة » 20
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
أحد إخوانها الذى حاولَ قيادتها إلى الداخلِ عنوةً:
هو ألا تفهموا أن للفتاةِ طمُوحَها الذى قد لا تسعهُ مخيلتُكم »
وادعاء الشارع، لها عالمُها وحُبُها وبساتين أملٍ. فلا تُحنطوهنّ فى بيوتٍ
.« تكون لهنّ قبراً وإن طلتْ على حديقة.. دعوا لهنّ الخيارَ وكاملَ الثقة
ثم وضعتْ الفتاةُ كفيَّها على بطنها كما قال شهودُ عيانٍ لحظة
مشاهدة الحدث وصرختْ:
أيا  خالدة زاهر( 3) عذراً! أن تناسوا النضال الذى يعرفُنا وإلهام »
الكتابة. متى سيفهمون إذاً بِأنّا جميلاتٌ نحنُ بهم إن منحونا الخيارَ،
.« وتجاوزوا بنا سخيفَ هذا الاختزالِ
ثم فجأةً أصدرتْ صوتاً كمن يتجشأُ.. وخرج ضوءٌ أزرقُ خفيفٌ من
فمِها حتى وقعتْ مغشِياً عليها. وقف الجميعُ مُسمرين فى مكانِهم. بدأ
الضوء يتشكلُ ويتشكلُ حتى اكتمل إلى صورةٍ شفافةٍ لشخصِ الرجلِ
المجنون.. مسح علي رأسِها بكفهِ فاستفاقت جاحظةً عينيها، ثم أخذ
الضوءُ يبتعدُ بتثاقلٍ ويبتعدُ، وهو شفافٌ تكادُ تُبصر خلفَهُ، حتى غابَ
فى بداية الشارعِ.
أثارتْ هذه الحادثةُ حفيظةَ مؤسساتِ المجتمعِ المدنى؛ المُنظماتِ
النسويةَ فى البلاد من جهةٍ، والجماعاتِ الدينيةَ السلفيةَ من جهةٍ أخرى،
3) خالدة زاهر سرور السادتي. تعد أولَ طبيبةٍ (امرأة) في تاريخ السودان، وإحدى مؤسسات الاتحادِ النسائى، )
اشتهرت بنضالِها وانحيازها للفقراء.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
21
حتى إن واحدةً من الإذاعاتِ المحليةِ قد حققتْ نجاحاً منقطعَ النظيرِ
لتنظيمها حلقةً بعنوان:
.« ! ما قاله الرجل المجنون وموقعهُ من المعرفة والشرع »
واستضافتْ بعضَ أساتذةِ الجامعاتِ فى تخصصاتٍ مختلفةٍ، وبعضَ
الشيوخِ.
دارت الحلقة بين معارضٍ ومُثنٍ على كلام الرجل المجنون، ثم اختلفوا
فى تأويل عباراتهِ وبعضِ الجملِ حتى انتهت بتبادلِ الشتائم بين
الضيوفِ.
وبعد أقلِ من شهرٍ من ذلك؛ فى الساحةِ الخارجيةِ لواحدٍ من أكبر
المساجدِ فى العاصمةِ الخرطوم.. أثناء خطبةِ الإمامِ فى رهطِ المصلين
الذين ضاقتْ بهم ساحةُ المسجدِ يومَ الجمعة.
وفى بدايةِ الشارعِ خلف الإمام مباشرةً.. ظهر شخصٌ غريبٌ وملامحُه
غيرُ واضحةٍ عن بُعد. يبدو كظلٍ ربما أو لا شيء.. يحمل شيئاً فى يدهِ
كحقيبةٍ، وعندما اقتربَ قليلاً، كان ذلك هو الرجلُ المجنونُ نفسهُ الذى
أحدثَ كلَ هذه الضجةِ.
وقف قُرب الإمامِ مباشرةً، ووضع مُخلاتَهُ التى كان يحملُها على الأرضِ.
ثم وقف أمام مُكبر الصوتِ، وضربهُ بأصبعه السبابةِ ضربتين كتجربةٍ.
جال بنظرهِ على المُصلين المذهولين قبل أن يخطب فيهم قائلاً:
22
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
هل تعرفون يا سادتى، أن بقربِ هذا المكانِ بالضبط، وبمسافة »
أنّ لبائعة القونقليس أن تحلُم، كانت أصوتُ سلاسل عبيدِ الزبير باشا
رحمة يجفلُ لها الخيلُ!.
هو اللونُ إذاً، ديباجة الله فى الهوية.
عقدتُنا الساميةُ، والتاريخُ ذو شجون..
فيا وجع الشوارعِ والحَصى، وتكرار دعواتٍ تزاولونها يا سادتى فى
كلِ يومٍ. فلا انقطع نسلُ اليهودِ كما تتمنون، وما زاد وعيكم بتاريخكم
قيدَ أنملةِ. لأن خُطبَ شيوخِكم العصماءِ تُفضلُ فتوى إرضاعِ الكبيرِ عن
إنتاج كتابٍ. وبذا يمكن أن تُؤخر ذات الخطبُ الجوفاءُ هذه قيامَ قطار
.« مترو فى مُدِنكم الكسيحة
ثم تكلم لهم المجنونُ عن فقرِهم وأزمةِ المحمول، عن عُفُونة بول
الناقة ووهم الميتافيزكس فى العلاج.. قال لهم:
أنتم تمُارسون الكياسةِ بمُراءةٍ يا سادتى، جُملاً جاهزةً تحفظونها »
عن ظهر نفاقٍ، تلفظونها سريعاً بعد الصلاةِ لتلحقوا ببيوتكم التى
تحملُ ذات التناقضِ فيها. فلا أمنياتِكم الرتيبةَ جلبت لكم الوظائفَ
كما تصبون، وما عرفتم أنتم قط أن ريشةَ الرسامِ أكثرُ قداسةً من لحيةِ
.« رجلٍ يحتقرُ المرأةِ
توقفْ يا رجل عن زندقاتك، الصهيونية والغزو الثقافى هما من » صرخ
المجنون 􀀷 هكذا..
23
..«! فعلا بنا ذلك
يصيح رجلٌ يجلس فى الصف الأمامى استفزهُ نافلُ الحديثِ.
ابتسم المجنون بتهكمٍ وهو يُخرجُ من مُخلاتهِ كتاباً، وقال وهو يناوله
لهُ:
بل هو التسييجُ المعرفى، وما دأبتُ على دعوتهِ بوهمِكم المقدس.. »
التناقضُ المركونُ عندكم فى أقصى الذاكرةِ قد قتلكم كما قتلكم التكرارُ
فى حياتكم الرتيبةِ، ولن يتقومَ فيكم إعوجاجُ التناسقِ هذا طالما أن
بعضَ الرؤوسِ التى تسكنُ تحت هذه العمامات ما زالت تؤمنُ باللونِ
الأبيضِ للبشرةِ كرأس مالٍ رمزى يحيلُ إلى الأصالةِ.
فلا تستبيحوا المفاهيمَ أكثر  وحق المعرفة  وتجاوزوا ركاكةَ
التصنيفِ، لأن السلطةَ التى تخافونها أنتم من أنتجها بشكلٍ آخر إن
فهمتم سعةَ الدلالةِ. فهل تعوونهاً!، أم أنكم تستمرئون لذةَ السعارِ
..« فيكم وصمتَ القبور!؟.
خرج صوتُ من بين المُصلين قائلاً:
.« ؟ نحنُ لا نخاف سوى اللهُ وحدَهُ أيها الغريبُ »
أجابهُ المجنون بسرعة:
بل أنتم تخافون حتى الفصولِ، ولعنةِ السيولِ فى الخريفِ. »
بيوتُكم النحيلةُ تتوسلُ المُزن خوفاً ألا يُكثر السخاء.
24
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
وهناك، فى شكلٍ آخر من الطبقةِ فيكم، ويالا المُفارقةِ، فِللاً ستتحدى
الدهر ثباتاً، بناها أصحابُها من دماء ذات بيوتِكم الهشةِ التى تخافون
.« عليها من بكاء السِحاب
ثم أغمضَ المجنونُ عينيهِ وقال صادحاً:
أياا باريسُ مهلاً.. إن شعبى يخاف المطرَ. وشعبُك تحت زخاتهِ »
يتعاطى الكستناء المشويةَ فى الشوارعِ مع الحبيبة.
وياا النيلُ عذراً.. إن أخاك الميسسيبى ليس أجملَ منك. ولكن للإدارة
.« دورها فى إعطاءِ القيمةِ والدلالة
هب رجلٌ كث اللحيةِ من جموع المصلين واقفاً، ثم صاحَ بملء صوتهِ:
.« اقتلوا! هذا الكافرَ المُرتد، هذا المجنونَ الزنديق.. اقتلوه »
ثم أخرج حزمةَ مفاتيحَ من جيب جلبابهِ، ورمى بها الرجلَ المجنونَ
فى جبينهِ حتى أدماه. نظرَ المصلُون إلى المجنون.. يعمُ الصمتُ لفترة.
يمسحُ جبينَهُ الدامى براحةِ يده، ثم يقول لهُ:
حسناً إذاً! اقتلنى يا رجل إن أردت، ولكن قبل أن تقتلنى أجبنى: »
هل تعرف أنت أن تهدى لأحدهم وردةً، أو أن تلُاعبَ طفلاً رضيعا
وتنظر فى عينيه لترى الله الذى تعبُد علناً؟.
هل سمعتْ الموسيقى فى مساءٍ مُخضبٍ بالشفق،
ولامستْ بأناملهِ الجميل فيك ولو لوهلة؟.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
25
بل هل لديك عاطفةٌ لتُحب مثلنا، وتجد فتاةً تذُيب لك الليل كأساً
من سلامٍ وتمنح سُهولَك اليابسةَ اخضرار المعنى؟.
ثم قل لى  وربُك الذى باسمهِ زوراً ترُيد قتلى  كيف ستصافحَ أمَك؟،
ويدك مغسولةٌ فى طستِ دماء!.
كيف تقُلب بذات اليدِ صفحات كتابٍ يحكى لنا عن المُستقبلِ
والسلام؟.
اقتلنى يا رجل، إن كان موتى سيُعيدُ لك الهويةَ.
ادفنى حياً إن شئت، مزقنى بمِديتِك الحادة هذه إن كان هذا سيُرضى
الغرورَ فيك. ولكن، بعدها ارحلوا عنا بتفكيركم هذا لنقيمَ لأطفالنا
رياضاً لا معسكرات موتٍ.
دعونا وأديانَنا، وتنوعنا الجميل فى التاريخ لنبنى دولة الإنسان.
اذهب يا رجل، إن دمى لن يحلَ أزمةَ الفقرِ المُتربصِ بكم. ولن يحيى
لكم آمالَكم الجهيضة.
لأن الفرقَ بين لحيتك ومعجُون الحلاقةِ، هو نفسُ الفرق بين يدىّ
.« ! المسالمتين وسكينك الحادةِ
ثم رفعَ الرجلُ المجنون مُخلاتَه من على الأرضِ، وغادرَ ببطءٍ من
نفس الطريقِ الذى جاء منهُ. غير مُكترثِ البتةِ لنداء المصلين خلفهُ،
وصُراخِهم وهم يُغالطون بعضَهم حتى غاب فى بداية الشارع!.
26
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
كان الذى قالهُ الرجل المجنون قد أثار حفيظةَ الكثيرِ من المُصلين
بين مُؤيدٍ ومستنكرٍ مُكفرٍ؛ والبعض البَينَ بَيْنَ . الأمر الذى كاد أن
يتحول إلى كارثةٍ حقيقيةٍ بين المُصلين فى ساحةِ المسجد،ِ لولا تدخل
قوا ت الشرطة.
ما جعل جهازَ الأمنِ السودانى يُحاول تعتيمَهُ إعلاميًا، وهدد جميع
المصلين بعدم التفوه به وإلا سيكون مصيرُهم مجهولا. !
قال مشايخُ الطرق الصوفية فى السودان بعد هذه الحادثةِ، إن هذا
الرجلَ المجنونَ هو رُوح الأستاذِ محمود محمد طه( 4) جاءت من
البرزخ البعيد لتعيد للإنسان صلتهُ والسماء، ولكن الذى ذكرهُ الشيخُ
شكرى ود المِحسيب قد شككَ فى هذه الفكرةِ، ولم ينسفْها فى الآن
عينهُ. !
فقد ذكر ود المِحسيب أنهُ، وبعد صلاةِ المغرب مباشرةً، طلع عليهم
رجلٌ من أمام بابِ المسجد ليس معروفاً عندهم في القرية، فهو ليس
من أهلها ولا ممن جاورها، ولا تبدو عليه علاماتُ المسافرِ، فإن المسافرَ
يكون في الغالب أشعثَ أغبرَ متسخ الملابس، وهذا الرجل الذي دخل
عليهم لم يكن كذلك، جلس أمام مُصلى الصف الأمامى، ثم قال لهم:
1985 -م). اسس مع اخرين الحزب الجمهورى السودانى. 4) محمود محمد طه مؤلف ومفكر سودانى ( 1909 )
خرج بعد اعتكاف طويل بمجموعة من الافكار الدينية والسياسية سمى مجموعها بالفكرة الجمهورية. حُكم عليه
بالردة واعدم عام 1985 م.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
27
ونُعاس المناراتِ وليالى الصيف، لو قرأتم يا سادتى بجانب ابن »
تيمية، فلسفاتِ الإنسانِ، لعرَفتم كيف يمكن أن يُصبح الرجلُ جلاداً
سادياً، مُتلذذاً بتعذيبِ آخرهِ النقيض.
ولكنتم يا سادتى حينها أقربَ إلى الله الذى تعبدون..
ولو كنتُم أكثرَ عمقاً لعرفتم أنكم لستم أكثرَ صدقاً بأى حال من أفراد
قبيلة (الدينكا) عابدين الإله (دينج) إله خيرات المطر. لأن الحوجة
واحدة، وهى الاستعاضةُ.
فيكفيكم إذاً أن تعرِفوا أن الشيخَ فرح ود تكتوك( 5) يوازى تماماً
غوتاما بوذا، إن كان قد اقترنَ بمكانةٍ موازيةٍ لدلالة الطُهر فى شروطٍ
جغرافيةٍ مُغايرةٍ.
هى الذاكرةُ الاجتماعيةُ، وحركتها على صفحة التاريخ.
الأسطرة كفعل تماسك نفسى فى مجتمعاتكم التى قتلتْها الخرافة.
ولذا أنتم دوماً فى رحلة البحث عن وسيطٍ حتى إلى الله. هُوامية
الحوجةِ البدائية فيكم والخوفُ من المجهولِ تنتج الفكرة/الوسيط.
كتعلُّق الدرويش بشيخهِ لا يُعدو سوى ان يكون وهَمِ القُرب إلى الله
بوسيط  هو شخص الشيخ نفسه!.
فلا تثقوا فى كُتبِكم الصفراء التى استهلكَها التداولُ بين أيدى التاريخِ.
5) اسم حكيم سودانى. )
28
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
وابتكروا لكم صلةً والسماء أكثر وداً من ميكانيكا الممارسةِ فى غبارِ
تاريخٍ يُخبركم بقطعيةِ دللتها فى الورودِ.
ولو كان إمامُ المسجدِ، أو قساوسةُ الكنائسِ يعرفون الروايات
العظيمةِ، وموسيقى زانفير كمعرفتهم بكتابِ الله. لخبروا حينها ذاكرةَ
الوردةِ. ولكانت خطبُهم المُقبلةُ قصيدةً لمحمود درويش أو ترنيمةً
.( لغوتة( 6
لأنهُم حتما سيكونونً حينها بعمقِ أن يعرِفوا بأن الموسيقى، الآدابَ
العظيمةَ، والفنونَ هى أقربُ إلى اللهِ الذى ينشدون أكثرَ من الذى
قالهُ ابنُ كثير، أو يوحنا المعمدان، وكلُ الكتبِ المنسوجةِ بالتاريخِ/
.« ! العنكبوت
هذا، وقال ودُ المِحسيب:
 ثم انطلقَ فلبثتُ مليًا حتى سألنى أحدُ الدرويش:
.« ؟ إن كنتُ أعرف الشخصَ الغريبَ »
قُلتُ:
.« ! اللهُ ورسولهُ أعلم »
قال الدرويش:
إنهُ الغوثُ الذى تسمونهُ المجنونَ، جاء يعلمكم كيف يمكن أن »
1832 ) أحدُ أشهرِ أدباءِ ألمانيا المتميزين، تركَ إرثاً أدبياً وثقافياً وفلسفياً ضخماً - 6) يوهان فون غوته( 1749 )
للمكتبةِ الألمانيةِ والعالميةِ.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
29
.«! يكونَ اللونُ هو أقصرُ الطرقِ إلى الله
ومن وقتِها، أصبح الحديثُ عن المجنونِ كلامَ الناس فى ساعات
المَقِيل.. قالوا أشياءَ عنه لا يعلمُ حقيقَتْها من كذبها أحدٌ. فبعد الحادثةِ
الأخيرةِ. قال بعضُ الذين لحقوه بعد خطبتهِ، إنهم قصوا أثرَهُ حتى
رأوَه دخلَ إلى الغابةِ، وعندما لحقوا به هناك كان قد تحولَ إلى شجرةِ
مِسكيت!.
إضافةً إلى أن مسئولي السلطةِ ذُعروا منهُ، وحسوا أن هذا المجنونَ
أصبح يُشكلُ خطراً على مصالِحَهم وسيصدعُ المفاهيمَ. وخصوصاً أن
مقولاته أصبحتْ بمثابةِ الشعاراتِ لمحبيه. حتى ظهرتْ مجموعةٌ فى
حلقاتِ التواصلِ الاجتماعى بهذا الاسم:
.« أصدقاء ومحبى الرجل المجنون »
يتبادلون كلامَهُ، ويضعون صورَتَه على صفحاتِهم الشخصيةِ. يُهرعون
مسرعين إلى سماعهِ، وكتابةِ كل ما يتفوَّه به إن سمعوا بظهورهِ فى
مكانٍ ما.. الأمرُ الذى جعل أحدَ مسئولى الدولة يُصرح بأنَّ:
هذا الرجلُ المجنونُ مريضٌ عقلياً، ويُشكلُ خطراً على قِيمِ »
ومفاهيمِ المجتمعِ، ولهذا يجبُ الإمساكُ به فى أقربِ فرصةٍ لتُقدم له
.« ! المساعدةُ الطبيةُ التى يحتاجُها
ثم حذر الناسَ من الاستماعِ إليه، وطلب من فريقِ أطباءِ الصحةِ
30
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
النفسيةِ إقامةَ ندوةٍ يحللون فيها مشكلتَه لعامة الناسِ كى يتجنبوه.
وتم تحديدُ يوم الندوةِ، واختير المتحدثون فيها من صفوة اختصاصيي
الطب النفسى والعقلى فى البلادِ.
ولكن الذى حدثَ يوم الندوةِ قد كان عكس كل التوقعاتِ!. إذ إنهُ
وبينما كان يتحدث البرفيسور المُقدِم عن انتشار حالات الهستيريا
والعُصاب بين الشباب، ومآلاتها كمدخل لعنوان الندوةِ الرئيسى.
وأمام الحضورِ الطاغى من الصحفيين، الإعلاميين والمهتمين عن
الأمراض النفسية، سمعَ الناسُ فجأةً صوتَ رجلٍ ينشدُ بصوتٍ جهورٍ
قصيدةً لقاسم حداد يقول:
بلادُك أيها المجنون
ساحة حربك الأخرى،
خطيئتك الجميلة،
فانتخب أعداءك الفرسان
قاتل وانتظر واهدأ،
فهذي وردةٌ للكأس
سوف تقول للأطفال عن جسد
تماثَل واصطفى موتا
وأبكى غفلة النيران.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
31
وعندما التفتَ الناسُ جهةَ الصوتِ كان ذلك هو الرجل المجنون نفسه.
لربما خرجَ إليهم من تناقض الشارعِ، أو من كلمات المُلصق المُعلق
خلف المنصة. لا أحدَ يعلمُ!.
تقدم بثباتٍ صوب المنصةِ. ثم جلس فى المقعدِ المجاورِ للبروفيسور
المُتحدِث، ووضع مُخلاتهُ أرضاً. تنهد وهو يُحوِّل المايك الصغير قبالتهُ،
ثم قال للحضور:
تبحثون عن الجنون أنتم إذاً يا سادتى.. »
وعظمة ما اكتنزت بهِ المكتباتُ أنتم ما عرَفتم شيئاً قط عن الجنون.
لأنه لا يعنى أن تُقارِن غرفةَ جدتك العتيقةَ بمكتب مُدير الُمراهنات
فى هونغ كونغ، بقدر ما أنهُ أقرب إلى أن تشُاهد شهادةَ تخرُّجك معلقةً
على الحائط، وأنت لا تملك سعرَ عُلبة سجائر يخفف عليك مأساتك.
هى المفارقات إذاً  يا التيجانى الماحى( 7)  وأحلام الشباب السراب.
أن تلكمُ الأقراص التى تمتلئ بها أرففُ الصيدليات الزجاجيةِ لن تحل
التناقض فيكم يا سادتى.
لأن فى بيوتِكم والشارعِ يوجد التناقضُ، بين طيات لغتِكم تجدونه.
إذ كيف - ورب الوعى - تسمُّونها غلفاء كإحالة سلبية، إلى تلك التى
ما وطِئت
7) طبيب نفسي سودانى، ويُعتبر رائد الطب النفسي في إفريقيا. )
32
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
حميميتها قابلة ؟!.
أما كان أفيد لكم أن تتكلموا عن ماهية أغانى البنات كنتاج قهرٍ فى
مجتمعٍ ما زال الغولُ فيهِ يسْكُن مُخيلة أطفالهِ فى كل ليلةٍ؟.
أما كان أجْدى، أن تفُككوا هدفَ الدعاية من أن تمضغوا القولَ فى
.« ؟ صفةٍ أنتم ما خبرتموها سوى بأدواتِ منهجٍ قد كساهُ الغبارُ قدماً
حسناً!، إلى ماذا ترُجع انتشارَ الأمراضِ النفسيةِ بين الشباب، »
.« ؟ وخصوصاً بين الفتيات منهم أيها المجنون
سأله صحفى نحيلٌ وهو يَفتحُ دفترَ ملاحظاتهِ.
تناقضُ الشارعِ فيكم، والنافلُ من القيم ( يجيبهُ المجنونُ). التحوصل »
كفعل تماسكٍ نفسى فى غياب الهويةِ الوطنيةِ قد نسف السلامَ كشرط
إنتاج. الإنسانيةُ كقيمةٍ عليا تفتقدون أهم خصائصها يا سادتى وهى
الاعترافُ. الاعترافُ بالإنسان كحصانةٍ ووعىٍ، المرأةُ كشريكٍ لا يقلُ
.« عنك مكانةً وقدراتٍ
لأن عمقَ اسْتيعاب أن ما فعلَتْهُ حواء الطقطاقة( 8) فى تاريخكم
الفنى، يُعادل كل تاريخ الحماسة فى مِضمار علم النفس الاجتماعى،
إذا تعَلقَ الأمرُ بالكشف عن تجلى قهر النساء فى واقعكم والتصانيف.
أهازيج الدلوكة هى المتنفسُ كانت لديهنّ ولا تزالُ.
8) حواء الطقطاقة هى الأم الروحيةُ لما يُعْرف بأغاني البنات فى السودان. )
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
33
إن أغانى فنانات الحى الشعبيةِ، تلك التى يَتأفَّف منها المُحافظون
منكم هى الأصدق بوحاً، والأكثرُ أصالةً كمفهومٍ إحالى.. حَملت آمالَهنّ
وطموحاتهنّ وطريقةَ التفكيرِ.
.« فادرسوها إذاً وتجاوزوا الاشراطَ ولو للحظةِ بحثٍ
لا مبرر لخبثِهنّ وذاك السلوك سوى لأنهن قد خُلقنّ من ضلعٍ »
قال دكتور مُلتح معرُوف. ..«! أعوج يا رجل
.« ليس هكذا تُحلل الظواهر يا دكتور »
يقول المجنونُ بسخريةٍ، ثم يردف:
إن نسيجَ المنظومةِ القيميةِ السائدةِ فى المجتمع، تحددهُ الخَلفية »
التاريخيةِ والدينيةِ فيه. وجهلك بهذا يُحيل إلى مفارقة تصوّرك. لأن تلك
( الأبلسةِ) التى تمُارسها المرأةُ فى المجتمعات المُتخلفة، هى نتيجةٌ
طبيعيةٌ لفقدانها الأمانَ فى مجتمعٍ يسقط كل قيمتهِ فيها. البحث عن
منفذٍ وطريقٍ وسط حِصار الوصايا، المُحايلة هى الدربُ الأكثرُ سهولةً
.« وسط أشواكِ القيم
.« وكأنك تُبرر لنا هذه (الحركات) التى يَفعلها البنات أيها الغريب »
سأله رجلٌ أصلع يَضع نظارةً طبيةً.. يُجيبهُ:
إن جميعَ تلك السُلوكيات التى تدعونها ب(حركات البنات) لا تعدو »
أن تكون آلية أنثوية تُزاولها المرأةُ إذ ما أرادت شيئاً من الرجل. هى
34
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
شكلٌ آخر من المُحايلة يجد لديها الامتياز. يكون نجاحُها أو فشلُها
.« مرهونٌ بمقدرتها على مخاطبة انتصابِ ذاكرة فُحولتهِ اللا واعية
تساءل بعضُهم. .« ؟ وكيف يكون ذلك »
الرجلُ!، الرجل هو من أنتج ذلك يا سادتى الكرام. المعايير هو من »
صنعها، ووَضع لها السياجَ. وهو أيضاً الذى يُحافظ على المحمُول لأن
لهُ فيهِ امتيازَ. فهل تفهمون الذى أعنى.
أم ليس لديكم ميكنزم ربطٍ لما أقول؟.
لأن المجتمعَ الذى يختزل شرفَهُ، والمرأةَ بكامل كينونتها فى غشاء
بكارة يمكن أن يَنفض - بكل بساطة - أثناء امتطائها ظَهرَ حصان.
هو مجتمعٌ لم تتجاوز ذاكرتهُ بعد زيق سِروالهِ، ولا تزالُ تكمنُ
.« ! السلطةُ فيهِ تحت ملابسهِ الداخلية
وقف المجنونُ ينظر إليهم، وهم يُعاينون فيهِ مَشدوهين. فقال لهم
بصوتٍ حادٍ:
متخلفون أنتم بهذا، وبدائيو التفكيرِ أيها السادة الكرام. والكرامُ »
هنا لا أعنى بها كرَمكم، بل هو اندراج اللغةِ!. تطَلون أظافرَ السلطةِ
دوماً بِمنكير الشعارات ولا تعلمون ذلك. الأرواح الشريرة تُشكلُ أقصى
هوامية الخوف من المجهول فى اللاوعى عندكم فى جغرافيتكم هذه
.« المُعطانةُ بالأساطير
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
35
وهم الميتافيزكس فى تمظهراتهِ هكذا يتجلى والمخافة.
هيستيريا التعابير يا فرويد وقمع رغبات الجسد.
سفينة الحمقى يا فوكو قد مرت من هنا.
اعلموا يا سادتى أن التابو فى عائِلاتكم والدولة. فى لغتِكم والشارع.
فى كتبِ مدارسِكم الابتدائية وعقولِ المدرسين. لعنة المحمول فى
أدمغتهم هى من أنتجتْ العُصاب والهستيريا وتفاصيلَ الجنون.
فأترعى يا  التجانى الماحى  إذاً بأبناء وطنكِ أو اختارى لهم منفى.
وما المنفى، سوى أنهُ الاغترابُ عن الذات الذى ترُيد حينما تغتال
.« تفاصيلُك الأوهام
قال الرجل المجنون ذلك، ثم حمل مُخلاتهُ من الطاولة أمامهُ بهدوءٍ،
وخرج بتثاقلٍ واضعاً يديه خلف ظهره ويُدندن بقصيدةٍ لم يَسمع قبلاً
بها أحد.ٌ وعندما حاول الناسُ لحاقه فى الشارع كان قد اختفى.
سألوا عنهُ رجالَ البوليس الذﯨن بدأت سياراتهم تتجمع فى الخارج..
قالوا إنهم لم يروا أحداً يخرج من القاعة.
سألَ رجلُ البوليس الضخم امرأةً عجوزًا تقفُ على حافة الطريق فى
انتظار الباص إن كانت قد رأت رجلاً بوصف هيئتهِ.. قالت إنها رأتْه
يتكلم مع ذاك الشخصِ. ثم أشارت بأصبعها إلى ماسحِ أحذيةٍ يفترشُ
قطعةَ قماشٍ أمامهُ، يضع عليها أدوات عملهِ تحت شجرةِ نيمة على
36
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
الطريق.
جاءه رجالُ البوليس وسألوه أين ذهب المجنون. رفع رأسهُ ببطءٍ ثم
قال لهم ببرود:
.« إلى مغارتهِ فى الغابة »
سألوه أن يَصفَ لهم مكان مغارتهِ فى الغابة.
قال لهم:
.« ! لا أعلم »
سألهُ الضابطُ ثانيةً فى انفعالٍ. .« ؟ حسناً، ومن يعلم إذاً »
.« ! لا أحدَ يعلم، لا أحدَ »
أجابهُ ماسحُ الأحذية، وهو يرتب عُدة الورنيش أمامهُ. نظر الجنودُ
إلى بعضهم، ثم سألَهُ أحدُهم عن الذى كان يقول لهُ المجنون؟.
رفعَ رأسَهُ ببطءٍ ثانيةً، ثم أجابهُ وهو ينظر فى عينيه:
 قال لى أن أخْبِركم أن:
!.« لا تستهينوا بالهامشِ، لأن للشوارع ذاكرَتها »
نظر الجنودُ إلى بعضهم ثانيةً، وقبل أن يسألوه مرةً أخرى. سأل هو
الضابطَ الذى يقف أمامهُ إن كان يريد تلميعَ حذائِه.
رماه الضابطُ الضخمُ بنظرةِ امتعاضٍ، وغادر صوبَ القاعةِ لجمع
المعلومات عن الذى قاله الرجلُ المجنون هناك.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
37
كانت قاعةُ الندوةِ مائجةٍ بالمُغالطات بين الأطباء النفسيين،
والصحفيين عن حقيقةِ ما قالهُ المجنون بخصوص المرأةِ والشارع،
وانتشار حالات العُصاب والهيستيريا فى المجتمع.
استطاع رجالُ البوليس تهدئةَ الوضع قليلاً بين المُختلفين.. سأل طبيبٌ
بعضَ الصحفيين إن كانوا يصدقون هذا الهراء الذى تفوه به المجنون؟.
الهراء، هو أن نأتى إلى هنا لنسمعكم تتحدثون لنا عن المشكلة »
العقلية التى تدّعونها عن الرجل المجنون( يجيبهُ أحد الصحفيين) وإذا
بنا نجد أن الرجلَ المجنون نفسه يحدِثكم عن مشاكلكم أنتم والمجتمع
.« بذات منهج تخصصاتكم التى أصبحتْ الآن حبراً على ورق
انتزع الطبيبُ حقيبةَ يدهِ من على الطاولةِ، وغادر صوبَ بابِ الخروج
غاضبا وهو يُهمهم بشىءٍ ما.
إن الذى حدث فى الندوةِ؛ كان هو عنوانُ جميعِ الصحفِ المحلية فى
البلاد صباح اليوم التالى. ووُضِعت مقولات الرجلِ المجنون كعناوين
للأعمدة الرئيسية فى الصفحات. وكان البيان الذى نشرتهُ وزارة الداخليةِ
بأن:
هذا الرجل المجنون قد أساء الحكومة ومنظمة الصحة النفسية. »
.« وكذلك قد مس قيمَ وعاداتِ المجتمع
وعرضها مبلغاً مالياً ضخماً لمن يدلُ على مكانهِ، ورفضوا أى وصف
38
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
بأنه فى الغابة، لأنهم حسب ما ذكر اللواء المسؤول قد مشطوا الغابةَ
كلها ولم يجدوا لهُ أثراً.. قد أثار حفيظة المثقفين الذين يُؤمِّنون على
الكثير مما قالهُ المجنون. كما اعتبروا محاولات اعتقالهِ هى ضد مبدأ
حرية الرأى والتعبير.
ولحق به بيانٌ ثان من منظمة الصحة النفسية، تقول فيه إنها تُدين
وتستنكر الذى فعلهُ الرجل المجنون فى ندوةِ منظمة الصحة النفسية،
وقال البرفيسور الباهلى إن الرجلَ المجنون يعانى من حالة (ذُهان
هوسِي اكتِئابيّ!).
واستلف أحد الصحفيين كلامَ المجنون الذى قال فيه:
إن المجتمع الذى يختزل شرفهُ والمرأة بكامل كينونتها، فى غشاء »
.« بكارة يمكن أن ينفض - بكل بساطة - أثناء امتطائها ظهر حصان
هو مجتمعٌ لم تتجاوز ذاكرتهُ بعد زيق سروالهِ، ولا تزال السلطةُ فيهِ
.« تكمنُ تحت ملابسهِ الداخلية
واعتبر الصحفى أن هذا القولَ يَعكسُ البُعد المتحرر فى شخصية
المجنون. وتأثره بالمدرسة الفرويدية فى استعارة منهج التحليل
النفسى.
رد عليه أحدُ شيوخ هيئة الفقه الإسلامى، وهى من أكبر المُؤسسات
الدينية فى البلاد. فى مقال أسماه:
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
39
!.« احذروا المجون، وما قالهُ المجنون »
وادّعى فيه أن هذا الرجل المجنون لم يتأثر بأى شىء، بل هو المسيح
الدجال نفسهُ الذى ذكرتهُ كتبُ السيرة، وقالت سيأتى فى آخر الزمان
ليملأ الأرضَ جُوراً وفتنةٍ. وابتدأ مقاله بالحديث النبوى:
يا أيها الناسُ! إنها لم تكن فِتنةٌ على وجه الأرض، منذ ذرأ الله »
ذريةَ آدم أعظمَ من فِتنةِ الدجال، وإن الله عز وجل لم يبعثْ نبياً إلا
حذر أمَته الدجال، وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم وهو خارجٌ فيكم لا
محالة. فإن يَخرج وأنا بين أظهركم فأنا حجيجٌ لكل مسلم، وإن يَخرج
ثم اقتبس الذى نقله الشيخ شكرى ود .« .. من بعدي فكلٌ حجيج نفسه
المِحسيِب فى حادثة المسجد عن المجنون فى قولهِ:
لو كان إمامُ المسجد، أو قساوسة الكنائس يعرفون الروايات »
العظيمةِ، وموسيقى زانفير كمعرفتهم بكتاب الله. لخبروا حينها ذاكرة
الوردة. ولكانت خطبُهم المُقبلة قصيدةً لمحمود درويش أو ترنيمة
.« لجوتة
لأنهُ حتماً سيكونون حينها بعمق أن يعرفوا بأن الموسيقى، والآداب
العظيمة، والفنون هى أقربُ إلى الله الذى ينشدون أكثرَ من الذى
قالهُ ابنُ كثير، أو يوحنا المعمدان وكل الكتبِ المنسوجةِ بالتاريخِ/
.« ! العنكبوت
40
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
وقال إن هذه دعوةٌ للفجور والمجون. والإشراك فى ذات الله تعالى!،
وواحدةٌ من علامات آخر الزمان واقترابِ الساعة. كما حذر الناسَ من
الاستماعِ إليه..، بل والمساعدةَ فى التبليغ عن مكانه إن شاهدوه فى
أى مكان.
الأمرُ الذى دفعَ أحدَ الشباب من مُعجبى الرجل المجنون أن يحمل
لافتةً فى الموقف العام لحافلات نقل الركاب بعد يومين. وقد كتب
عليها بعض مقولات من أقوالهِ. تم اعتقالُهُ من قِبل السلطات الأمنية
بتهمة التواطؤ مع شخص مطلوب قانونياً.
وفى خِضم كلِّ هذا اللغط؛ كان الرجل المجنون يمارس روتينَ حياتِه
كما هى. لا يَعْنيه الذى يُقال عنهُ أو يُنعت بهِ. يسيرُ فى طرقات المدينةِ
والأسواق.
يلعبُ مع الأطفال فى شوارعِ الأحياء، يذهب إلى بائعي كتب
الأرصفة، يشترى كتباً خاصة أو يُبدلها بأخرى يُخرجها من مُخلاتهِ بعد
أن يدفعَ عليها علاوةً بسيطةً.
وبرغم كل هذه الحريةِ التى يعيشها لم تسْتطع السلطاتُ الإمْساكَ بهِ.
يتلقون اتصالاً بأنهُ شُوهِد فى عِدة أماكن، وعندما يُهرعون إلى هناك
لا يجدونه.. كان آخرها عندما اتصلت سيدة، قالت إنها الآن تشُاهده
يتكلم مع شابٍ وفتاة فى الحديقةِ العامةِ. وعندما وصلَ أفرادُ الأمنِ
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
41
وجدوا الشابَ والفتاةَ يقفان أمام طبليةِ بائعِ الحلوة وهما يضحكان.
سألهم الضابطُ عن الرجل المجنون؟، قال لهُ الشابُ إنهُ ذهب من
ذاك الاتجاه، ثم أشار بأصبعه إلى نهاية الحديقةِ جهةَ مرَاجيح الأطفالِ.
أَرسل بعضَ الجنود لتعقب أسره، ثم سألهما أن يحكيا الذى حصل
لهما معه بالتفصيل.. قال الشاب وهو يُشير بأصبعه إلى مقعدٍ خشبى:
كنتُ أَجلسُ وخطيبتى على ذلك المقعدِ قرب شجرةِ الجميزةِ تلك، »
.« أُعاتبها بصوتٍ عالٍ على بعض الهفوات، ثم فجأةً جاء الرجلُ المجنون
يقاطعهُ ..« ؟ أَخبرنى بالتفاصيل، ماذا كنتَ تقولُ لها، وماذا حدث »
الضابطُ.
حسناً!( يُجيبُ الشاب)، قلتُ لها إننى قد تَعِبتُ منها ومن كل هذا »
الهُراء، وقد أخبرتها مراراً وتكراراً ألا تفعلَ الذى فعلتْ.. وكانت دوماً
ترمي بكلامى عرضَ الحائط، ويؤسفنى أن أنهى معها هذه العلاقةَ برغم
.« من أنى أُحبها
تُواصل الفتاة: ..« بكيتُ أنا »
وسألْتُهُ إن كان سينهى عامين من الحب بهذهِ البساطة!. وكلمتهُ »
عن مشاريعنا المشتركةِ التى رسمناها سوياً؟، عن حلمنا والمشاوير،
هاتفنا المسائى والوعود العِراض، أخبرتُهُ أنه هو أيضاً فعلَ أشياء كثيرةً
.« قد غَفرْتها له، وعلا صوتنا ثم..42
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
وقفتْ الفتاةُ فجأة، ونظرت إلى خطيبِها الذى تابعَ قائلاً:
نعم!، ثم مر بقربنا المجنونُ الذى يبدو أنهُ سمِع بعضاً من حديثنا، »
وقفَ قبالتنا وأَخرجَ من مُخلاتهِ قطعتى شوكولاتة.. قدمهما لنا وأخذ
واحدةً لنفسه ثم قال لنا:
هل تعْرِفان يا صديقاى ما الصِّلةُ بين العلاقات العاطفية »
..« ؟ والشوكولاتة
يقول الشاب - فاسترسل: ..« تعجبنا منهُ »
إن الشوكولاتة التى بالكريمة، ليست أجملَ من تلك التى بالفانيليا، »
.« بل هناك توقيتٌ جيدٌ لتناول كلَّ واحدةٍ منهما، وتوقيتٌ ليس كذلك
 قال ذلك ثم تحرَّك مُغادراً ( يقول الشاب ) وبعد خطوتين سألْتُهُ:
ماذا يجب أن يَعنى لنا ذلك؟.“ - فأجابنى: »
هو التوقيتُ يا صديقى.. التوقيتُ يعطى الأشياءَ نكهتها، استمعْ »
لها ومن ثم سلّفها أذنَك لتشهدا الاختلافَ.. خذْ زمنك وامْنحّها الفرصةَ.
لأنهُ ليس هناك علاقةُ حبٍ ناجحةٌ وأخرى فاشلةٌ، بل هناك علاقةُ قد
.« ! حسُنت إدارتُها بين طرفيْها وأخرى ليست كذلك
نظرَ الضابطُ إلى زميله، وسألهما:
.« ؟ وماذا تفعلان الآن هنا »
.« نريدُ أن نشترىَ قطعتى شوكولاتة » صرخ
المجنون 􀀷 هكذا..
43
أجابته الفتاةُ وهى تمسك ساعدَ خطيبها.. الذى نظرَ إليها وابتسم، ثم
استأذنا منهُ واشتريا قطعتي شوكولاتة وغادرا صُوبَ الحُلم.
عاد الجنودُ، وقالوا إنهم شاهدوه يَستقل الباصَ المتجه إلى جامعةِ
الخرطوم.. سألَه الضابطُ إن كانت الجامعةُ تشهدُ أىِّ نشاطٍ اليوم؟.
.« نعم سيدى، اليوم هو تاريخُ الندوةِ السياسيةِ للمعارضة »
أجابة الجندى القصيرُ.
يُحادث الضابطُ نفسهُ، قبل أن ..« حسناً إذاً، قد عرَفنا أين هو »
يصّرخَ آمراً الجنودَ بالتحرك إلى الجامعةِ فوراً.
داخل الباص؛ جلسَ الرجلُ المجنون قربَ شابٍ يتصفحُ صحيفةً، أمعن
فى حلاقةِ ذقنهِ الجديدة، ثم سألهُ:
.«؟ هل لديك حبيبةٌ »
يسألهُ الشابُ باستغرابٍ وهو ينظرُ إليه. ..« ! عذراً »
كرَّر عليه المجنونُ نفس السؤال، فقال الشابُ:
.« ؟ نعم!، ولكن لمَ السؤال »
.« ؟ هل تُعجبها حلاقةُ ذقنِك »
أجابه الشابُ المُتعجب سائلاً. ..« ؟ أعتقدُ ذلك، لمَ السؤال »
لأن الحبيبةَ التى لم تنتبه لحلاقةِ ذقنك الجديدةِ، هى حبيبةُ لا »
تعُوِّل عليها كثيراً يا صديقى، لأنها وبعد الزواج لن تكون أبداً برومانسية
44
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
أن تحُضِرَ لك المِنشفة وأنت أمام المرآةِ فى الحمامِ واقفٌ تحلِق ذِقنك.
لتَحضُنك من الخلفِ بوداعةِ طفلةٍ، وتطبعُ قُبلةً على كتفِك اليسار
العارى، قبْل أن تنظرَ إليك فى المرآةِ وتُهديك حُلو ابتسامتها تلك
.« وتمضى
بذا أجابهُ المجنونُ عند بوابة جامعة الخرطوم، ثم أشار للسائق
بالتوقفِ ونزلَ تاركاً الشابَ مُحتاراً فى مِقعدهِ. !
كانت جامعةُ الخُرطوم تشهدُ ندوةً سياسيةً كُبرى لقوة المعارضة،
ستتحدث فيها قياداتُ التنظيمات السياسية، وهى كما ذكَرت صحفُ
المعارضةِ:
نتيجةً لتدهورِ الأوضاعِ السياسيةِ والاقتصاديةِ فى البلادِ.. الحروب »
.« وقمع الحريات
وكان اعتقالُ ذلك الشابِ الذى حمَل لافتةً من أقوالِ المجنونِ، فى
الموْقف العام بتلك الطريقةِ الوحشيةِ أحدَ تلك الأسبابِ.
استطاع الرجلُ المجنونُ التَّسللَ مع الحُشودِ المُتدافعةِ إلى داخل
الجامعةِ برغم تطويق القوات الأمنيةِ لها، مُستفيداً من ظلِ كرسى
الوقت الذى جلس عليهِ الرجل/المساء.
كانت الجامعةُ مُكتظةً بالحضورِ من كل الفئاتِ العُمرية، وبمختلف
ألوان طيْفهم السياسي. سار فى (شارع المينّ) الذى تقُامُ عليهِ أركانُ
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
45
النّقاش السياسيةُ للطلاب، وكأنهُ يُلملمُ أسْمالَ ذاكرةِ!، أو يُخاطب
الشجرَ الذى بجنبيه.
وقف فى نِصفهِ وجال بنظرهِ حول المكانَ، وحينما صافَحت عيناه
المكتبةَ المركزيةَ فى الجامعةِ. تأمّلها طويلاً، ثم ابْتسم مع ذاتهِ ابتسامةً
وحده يعرِف كُنهها.. سألهُ أحدُ المارين بقربهِ عن الذى يجعلهُ يِبتسمُ
مع نفسهُ؟.
! .« الحنين »
أجابهُ المجنونُ دونَ أن يُحيدَ نظرَه عن المكتبةِ.. سألهُ الرجلُ المارُّ
وهو يُمعن فى المكتبةِ:
.« ؟ ماذا تعَتقد بشأن الحنين »
.« ! أممم لا أعرِف »
يقول المجنون ولا تزال على شفتيه تلك الابتسامةُ، وهو يجُول بناظريه
بين الأماكنِ، ثم أردفَ:
تلك اللعنة »  ولكنى قد قرأتُ فى روايةٍ صغيرةٍ لا أذْكرُ اسمَها بأنهُ
.« ! التى تصُيبنا كلما طرَقت أنامِلُ اللحظةِ البابَ اللطيفَ للذاكرة
ابْتَسم له المارُ ثم صافَحهُ وعرَّفهُ بذاتهِ وغادر.
جال بنظرهِ ثانيةً لوهلةٍ، ثم اتجَّه إلى الميدان الشرقى للجامعة حيث
تقُام الندوةُ، وبين كل تلك الحشودِ المُتزاحمة لم يجدْ مقعداً يجلسُ
46
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
فيه، ما اضطرهُ إلى البحث.. علّهُ يجدُ مكاناً شاغراً.
بدأت مُكبرات الصوت تنفثُ تلك الشعارات الجاهزةَ إيذاناً ببدايةِ
الندوةِ كما هو مُتبع، وتمهيداً للمُتحدث الأول الذى ابتدَر مُداخلتهِ
هادئاً، يُحيى فيها جماهير الشعبِ الصابرةَ على الظلم والطغيان،
وينتقدُ فيها السلطةَ الظالمةَ التى أفقَرت الشعبَ، وصنعت الحروبَ
وصادرت الحريات و..
ثم فجأةً صاح رجلٌ من بعيد:
.«! الرجل المجنون »
انتَبهَ المجنون أن أحدَهم قد تعرّف عليه، فحاول بسرعة أن يُغيّر
مكانهُ الذى يقف فيه.. صاح آخر مر به:
.« نعم! إنهُ الرجلُ المجنون.. إنهُ الرجلُ المجنون »
صاح بعضهم:
.« نريدُ أن نسَمع الرجلَ المجنون »
الجميعُ أصبح يهتِف:
.« نريدُ الرجلَ المجنون.. نريدُ الرجلَ المجنون »
توقفت الندوةُ!، حاولت القواتُ الأمنيةُ اعتقالَهُ، طوَّقتهُ الجماهيرُ
وحموه. ثم قادوهُ عنوةً إلى المنصةِ. وقف المتحدث مذعوراً وغادر
مقعدهُ، أقعدوا الرجل المجنون مكانَهُ.. جلس دون مُقاومة. وكأن تلك
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
47
الجلبةَ التى تدور حوله بين القواتِ الأمنيةِ والجمهورِ لا تعنيه.
أطبق عينيه الصغيرتين أكثر وهو يُمعنُ النظرَ فى قيادات التنظيماتِ
السياسيةِ التى كانت تجلسُ على المقاعدِ الفخمةِ فى الصف الأمامى
مُندَهشة.. تنهد قليلاً، وأخرج مِقبضَ مُكبر الصوت من مقعدهِ. ثم
ابتدَر خطابَهُ بهدوءٍ سائلاً:
هل تعرِفون يا سادتى! لماذا أنتم لا تأكلون الحصين مثل متحدثي »
.«؟ لغة اللنقالة فى جمهورية الكونغو
أخذت تَقل همهمات الجمهور تدريجياً، حتى عم صمتُ الترقب.
نظرت قيادات التنظيمات إلى بعضهم متعجبين من السؤال، فاستطرد
المجنون:
بالضرورة، ليس لأن طعمَها لا يُناسب ذائِقتكم الرفيعةِ ايها السادة، »
بل لأن الوعاءَ الثقافى لديكم لم يستوعبْها فى (الانتخاب الثقافى )
.« ! وجبة » للحركة الاجتماعية فى التاريخ ك
وهذا يعنى  ببساطة  مُقاربة أن:
إن لم يدخلْ العربُ السودان بهذا الكم بعد القرن السابع الميلادى،
لما رفضَ (ثقافياً) رجالُ قبائل النوبيين فى الشمال أن يُزوجوا بناتهم
لواحدٍ من جبال النوبة الآن.
لأنهم كانوا سيعرِفون حينها أنهم (جينياً) ينتسبون إلى سلفٍ واحدٍ
48
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
قد لغتهُ (حضارياً) النُوق التى دخلت مُسرَّجةً برجال عبدالله بن
أبى السرح.. فالدنقلاوى، مثل المحسى هنا، والحلفاوى هو رفيقهم..
سعادتُهم ( الحالية) بدخول الإسلام ك(منقذ) وقتها، هى ذاتُ سعادةِ
أجدادِهم عندما دخلتهم المسيحيةُ فى العام 350 م.
بل هى نفس سعادةِ أجداد أجدادهم عندما كان يُنزِّل لهم الإلة (آمون
.« ! راع) ربهم وقتها، المطرَ فى مواسم الزرع
ثم رفع صوتَهُ قليلاً، وهو يطوف بنظرهِ بين الحشودِ الضخمةِ:
وبذا يكون الشايقى، كالجعلى، ولا أستثنى الربطابى بأى حال، إنهم »
مثل إخوانهم المذكورين أعلاه:
ليسوا أكثر رفعة أبداً ( إنثربولوجياً)  إن كنا أكثر شفافيةً  من ذاك
(الأسود) منهم فى جبال النوبة إن تعلق الأمر بالأصالة.
لأن ذات هذا الذى يصنفونهُ ( دُون )، هو يُشكل مركز الحضارة
(النوبية) نفسها، التى تنتسب لها ذات القبائل أعلاه بفخر..
وهنا يمكن أن تفَهموا عُقم هذا الجدل القائم الآن على مستوى
.« التعاملِ مع التراث لتحديد الهويةِ
.« السلطةُ هى سببُ هذا الاختلالِ يا هذا »
يصيحُ أحدُ قيادات الطائفية بعدما مسّهُ طرَف السوط.
أنتم من فاقمتم الأزمة ( يجيبهُ المجنون) بل أنتم الأزمة كُنُهُها فى » صرخ
المجنون 􀀷 هكذا..
49
التمييز من خلال اللونِ والثقافةِ واللغة، لا السلطةَ وحدها يا عزيزى
ويكفى نفاق.. سالفاً قد كنتم فى ذات هذا الكرسى الذى تكُيلون له
.« !؟ الآن الاتهامات، فماذا فعلتم
.« هذا إجحافٌ يا رجل! نحن من منح هذا الشعب الحريةَ والاستقلالَ »
يقولُ قياديٌ آخر. ابتسم المجنون حتى ظهرت نواجزهُ، وقال له:
..« بل منحتوه (الاستغلالَ) يا صاحٍ ولتضبط اللغة »
الإذعانُ وتجميدُ العقل كان ثمرتكم. لأن التعصب  وأنت تمثل أحد
نماذجهِ الآن  هو الآلية الوحيدة لوضع حدٍ للشكوك التى تكُدر روحَ
البشر.
وهى ذات الشكوكِ التى توُلد الإبداعَ والتغييرَ، ليأتى السلامُ كشرط
سابقٍ للأنسنة وأنتم قمعتموها ببنيتكم ذاتها، وهى نكوصية فى الأساس
تحَنُ إلى حضن الأم الدفء والأمان.
مرضٌ طفولى هذا الذى تكونونهُ يا سادتى ولا تعلمون، تكونونهُ
بشكلٍ غير واعٍ فى العودةِ للعلاقةِ الدمجية مع الأم التى هى الطائفةُ أو
القبيلةُ هنا. وبالتالى يتم تجاوز الوطن بوسعهِ لتحل محله هذا الضيق
من الانتماء، ولذا أنتم متأخرون حتى فى انتمائكم البسيطِ فماذا عن
.« ؟ المُركب إذاً
يصرخ أحدُ الجماهير من بعيد سائلاً:
50
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
.«؟ وماذا تقول عن قيادات الإخوان المسلمين وفكرِهم أيها المجنون »
أجابه وهو ينظر باتجاههِ:
أقول فيهم ما انفلت فى أشقّائِهم أعلاه، باختلافٍ بسيطٍ هو تحويل »
الانتماءِ إلى عقيدةٍ، وهنا تكمنُ الأزمة فى ضيق مساحتهِ.. ومُعوّق فى
.« الآن نفسهُ لفعل السلامِ والإنسانِ الذى تتوقون أن تكونوه
الانتهازية والمصلحةُ الأقصى هى مُحركهم لا منفعة وطنٍ، الاستلافُ
من الرصيد الثقافى والدينى لشعب تم صبهُ فى قَالب الميثولوجيا
..« وجرهُ من أذن التابو كأن تكنيكهم الناجح
ثم فجأة صرخ المجنون فيهم وهو ينظر إلى الشيخ ذي اللحية
قائلاً:..
هل تفهمون الذى أعنى أيها السادة؟.. »
أم أنكم تجيدون فقط تكْويم القش لنعجةِ السلطةِ فى مَراحها،
!.« ؟ وتنظيف وَبرِها من العالق فيه من المُقزز من أفعال
أنزل الشيخُ غصةً صعدت فى حلقهِ، وهبَّ واقفاً ليغادر.. هتف فيه
الجمهور:
.« لا تغادر.. لا تغادر »
تلفّت الشيخ ناحيةَ الشعارات التى ماجَت بها الندوةُ، ثم جلس ثانيةً
بغضبٍ وهو يعدّل خُرقة جِلبابهِ الأبيض.. أغمضَ المجنون عينيه مُنادياً:
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
51
أياا شُجيرات النخيلِ الكثة، أخْبريهم أن لحيتهم لا تشبه سَعْفكِ »
المتدلى على أكتاف جِذعك.. فعُذراً لسخيف هذا التقليد لكِ..
وياا شُجيرات السيسبان الجاشمات على صدر نيلٍ تغيَّر لونهُ، كيف
.«! يَهزجنّ عندك الصبايا بالأغانى وهم يَغتالون الإنسان
فجأة علا صفيرُ إنذار سيارات البوليس فى كل مكانٍ، وأضاءتْ الليلَ
بأنوارها البراقةِ الملونةِ حول الجامعة، وأخذت تعلو هِتافات الجماهير
ضد النظامِ الحاكم.. فقد كانت هذه السيارت تحملُ مسؤولي السلطة
الذين جاءوا بعدما لم تستطعْ القواتُ الأمنيةُ توقيفَ المجنون الذى
حمتهُ الجماهير.
ظل المجنون جالساً فى مكانهِ بهدوءٍ، وأخذتْ قياداتُ التنظيمات
تَتهامس مع بعضها ويتلفتون. تقدم مسئولو السلطةَ وسْط هِتاف
الجماهير تُطوقهم قواتُ الأمنِ وجهازُ أمنِ الدولة.. يفجون لهم
الطريق بين الحشود حتى وصلوا إلى الصف الأمامى، حيث كانت
تجلس قيادات التنظيمات.
نظروا للرجل المجنون فترة قبل أن يجلسوا.. قعد رئيسهم، ثم جلس
تابعوه بعده:
.« لماذا لا تتوقف الآن أيها المجنون، ونحنُ ندعوك للحوار »
يقول الرئيسُ بطريقتهِ الواثقة تلك، ابتسم المجنون، ثم قال لهُ وقد
52
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
كسا وجهَه بعضُ الحزنِ:
الحوارُ يا سيدى هو وعى الدمقرطةٌ، وهى فعلُ قوامهُ الجماهير. »
وهذا الذى لم تستوعبْه أنت ولا عقولُ تابعيك الساكنةُ تحت العمامات
.« النفاق
جحظت عينا الرئيس، ونظر إلى أحد وزرائهِ الذى سألَ بتعصبٍ:
.« ؟ ماذا تعنى »
أعنى أن الحوارَ لغةً لم ولن تفهموه، لأنه لغةُ الحمام مع الجدولِ »
ليحل السلام. وأنت  ويا جُرم الذى قد فعلت  قد فصلت عنى ساعدى
الأسمر، وشردت آخرين.!
فبربكم  وهذا الشفيف من القول  ألمْ تروا هذا العبثَ الذى صنعتهُ
أياديكم والدماء؟. ألمْ تشعروا يوماً واحداً بحُرقة الأمهاتِ الباكياتِ على
جدار الليل؟. ألمْ تَرضعوا من أثداءٍ مثلنا، لتحسوا بكل هذا القرف؟.
إن الضلوع البارزةَ لأطفالنا تكْشفُ زيفَكم، وتكتُب فجيعةَ التاريخ.
بربهم قد خَدعتموهم، وأجهضتم الأحلامَ.
بدِينهم قد قتلتهم كذباً، ودفنتَ آخرين أحياءً.
فكيف ويا - حسرة النيل وهذا الشجن - أُسميك إنساناً، وأُجالسك
بعد اليوم، وأنت تَغتالُ الطفولةَ فى مهدِها الأول، وتُصادرُ ماء أعينهم
.« الحالماتِ
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
53
.« نحنُ قد فعلنا الكثيرَ لهذا البلد، ولن نتجاوز لك هذا أيها المجنون »
يقول أحدُ الوزراء انتفخَ وجْههُ غضباً.
.« لا تُهددنى! يا رجل »
يقولُ لهُ المجنون، ثم يُواصل وهو يَكزُّ على أسنانهِ:
أنتم لم تتجاوزوا حتى النفاق المُغلف فيكم، واستراج المُداهنة. »
لأن أطفالَ الشوارع قد استفرَغتْهم مكاتِبكُم أنتم ووهمُ الشعارات.
الأطفالُ مجهولو الأبوين أنتم اغتصبتم أمهاتِهم، لأنكم تجاهلتم تَفاقُم
المأساة.. الجوعى فى بقاع أرضِكم، وداخل عاصِمتكم الطاهرةِ أنتم
.« أكلتمُ قوتَهم، ووزعتم الحرمان
بدأ الجمهور يردد هتافات ضد السلطة.. هبَّ أحدُ قيادات التنظيمات
السياسية واقفاً، ثم أشار بكفيه طالباً من الجمهور الهدوءَ.
سأل الرئيس ثانيةً:
.« ؟ وهل تعتقدُ أننا وحدنا من فعلَ كلَّ ذلك »
أجابهُ المجنون وهو يَهزُّ رأسَه إيجاباً:
نعم! أنتم، والعاطن من المُخلف فيكم وهيستريا التحاريم ما »
جَعلوا عواصمَكم الحزينةَ فى رَتابتْها ألا تشُيد المسارحُ والمعارضُ الفن.
ألا تعرف السينما كنتوجٍ حضارى يسترج الواقع فناً فى تناقُضاتهِ،
ليعيدَ بناءَ ذات الواقعِ من جديدٍ بشكلٍ مُغاير ويأتى الإنسانُ.
54
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
واقعكم المنسى يا سادتى، هذا المُتصدع بين أمسِكم البعيد، وشروطِ
الإنسان الجديدِ الذى لم تكونوه بعد.
لأنكم لا تعرفون حتى أن تُهذبوا شواطئ بلدانِكم بذوقٍ يُلائم مزاجَ
الموجِ والسائحِ وأضواء الأعيادِ. ولا تعرفون أيضاً أن حناجِركم هذه،
والتى أرهقتها صرخاتُكم واللعنات المُتكررة.
كانت يُمكن أن تكونَ حناجِر غنائيةً مُذهلةً إن كررت بذات القدر
تمارينُ الصوتِ فى دولةٍ فيها نوادى تهتمُ بالموسيقى، لأن الوعى هو
ما يمنحُ الجغرافيا معناها وليس العكس، وهذا النهر كان سيكونُ أكثر
روعةً إن كان فى دولةٍ لا تُجرم عاشقين يركضان على رمالهِ فى ذات
.« مساء
ثم صاح فيهم:
هل تفهمون الذى أقولُ، أم إنه الغباءُ المُزدوج والتغابى؟. »
فلا تكذبوا - وشرف الشهداء منا  لا تكذبوا وقولوا قد فشلنا.
تنحوا.. ولن نُودعكم بالمصافحةِ، فدماءُ أبنائنا أذكى.
سهولُنا لن تعذركم قُراها، وشيوخُها الطيبون.
تنحوا، أو سنبعِدُكم نحنُ، ولنا ماضٍ يُلهمنا…
.« ولنا عُذوبة الأمانى، وجَميلُ أطفالٍ قادمين سيبنون الذى هدمتم
ثم فجأة هتف الجمهور بصوتٍ واحدٍ:
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
55
!.« تنحوا نريد السلام.. تنحوا لنبنى دولةَ الإنسانِ »
هبَّ وزيرُ الأمنِ والمخابرات الوطنى واقفاً ثم صاحَ فى الجنودِ:
.« ..! اعتقلوه »
تدفقت حشودُ الجماهير بسرعة واقفةً بين القواتِ الأمنيةِ والمنصة..
دار عنف بينهم وقوات جهاز الأمن بالعصىّ والكراسى.. ارتفعت
الأصواتُ، الصرخاتُ والهِتافات:
.« تنحوا نريدُ السلام.. تنحوا لنبنى دولةَ الإنسان »
قاد كوادرُ جهازِ أمن الدولة الرئيسَ والمسئولين بسرعة إلى الخارج،
وكذلك انسحبت قياداتُ التنظيمات.. وامتلأت الأجواءُ بدخان الغاز
المُسيّل للدموع، مُحدثاً سحابَ دخانٍ حَجَبَ الرؤية.. وبعد فترة،
وحينما انجلىِ صاح أحدُ أفرادِ جِهاز الأمنِ:
.« أين الرجلُ المجنون.. أين الرجلُ المجنون؟  »
وحين الْتَفَتَ الجميعُ ناحيةَ المنصةِ، كان الرجلُ المجنون قد اختفى!.
56
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
57
باريسٌ تنهضُ على أصابعِ صباحٍ أيلولى جميلٍ، تغُالبُ نُعاسها بروعة
أنثى. رذاذُ المطرِ القُطنى يُقبّلُ سُتراتِ المارةِ، ويَبثُ الشوارعَ همسَ
السحابِ العابرِ، وعلى مقهى يطلُ على شارعِ الشانزليزيه، وخلف
واجهةٍ زجاجيةٍ مغسولةٍ بنقاطِ المطر الخفيفِ، كان الرجلُ المجنون
هناك!
يرتشفُ قهوَتهُ التركيةَ، وينظر من أعلى عبَر الواجهةِ الزجاجيةِ
لعاشقين فى ساحة الكونكورد، وقُربَ تمثالِ بيكاسو بالتحديدِ،
يلتقطان الصورَ، ويَحضنان أكُف بعضِهما، ويضحكان مَلء الحبِ.
يبتسمُ مع نفسهِ مع آخر غصةٍ، يجلسُ قليلاً، ويسهو عنهما وهو
يستحضر كل الذى حدث فى جامعةِ الخرطوم فى السودان.. الجماهير
ووقفتها معهُ فى آخر لحظة فى الندوة وكل الذى كان، الرجل العجوز،
المرأة التى صرخت:
فصل باريس
58
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
.« أنزلوهُ! من على المنصة بسرعة.. أنزلوه »
الطفلُ الذى جرّهُ من أكمامهِ، الشابُ الذى قفَز فوقَ الشرطى الذى
كان يُريدُ أن يصعَد إليه ويعتَقِله، صاحبُ الحافلةِ الذى اصطحبهُ إلى
دارِ حقوقِ الإنسانِ فى العاصمةِ.
تذكّر الرجلُ المجنون كل ذلك، ليُخبروه بعدها أنهُ سيتمُ ترحيلُه
إلى باريس حفاظاً على حياتهِ، وبعدها إلى الولايات المتحدةِ.. اكتفى
حينها بنظرةٍ غامضةٍ وتكرر الاسمُ:
.« ! باريس »
لم يَفهمْ مديرُ الأممِ المتحدةِ حينها إلى ماذا كان يرنو، ورُبما قد
لا يَفهمُ أبداً!، يَبتسمُ مع نفسهِ ثانيةً، وهو يأخُذُ رَشفةً أخرى من
فِنجانهِ، وينظرُ من جديدٍ لهذين العاشقين وهما يصنعان الذاكرة.
يُزيحُ نظرَهُ عنهما، ويُمعنُ فى لوحةٍ جميلةٍ مُعلقةٍ على الحائطِ
لنهرٍ تطُوِّقهُ الأعشابُ البريةُ، ويضحكُ موْجهُ قليلاً مع شمسِ المساء
الهامس.
يُزيح نظرِهُ عن العاشقين إلى اللوحةِ، ثم يحولهما إلى العاشقين
ثانيةً، يُخرِجُ من مُخلاتهِ الحقيبة دفتراً صغيراً وقلمًا، يخُطّ شيئاً ما، ثم
يضعها وبعضَ النقودِ على الطاولةِ قرب فنجانهِ..
ينادى النّادلةَ، يبتسم لها ويخرجُ.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
59
تأَخُذ النَّادلةُ النقودَ والفنجان، وتفتح الورقةَ التى طواها المجنون
طويةً واحدة من نِصفِها، تقرأها على عجلٍ، وتنظرُ من خلفِ صفحةِ
الزجاجِ فاتحةً فاهها بتعجبٍ.
تأْتِيها مُديرتُها المُستعجلة وتسألها عن سبب وقوفها هنا.. ترُجِع
النادلةُ شعْرها الأشقرَ إلى الخلفِ وتمُدَّ لها الورقةَ، فتحتها فكان
المكتوبُ عليها بخطٍ مُستعجلٍ ولغةٍ فرنسية رفيعةٍ:
هل تريْن يا آنستى هذيْن العاشقين اللذين هناك، قُرب تمثالِ »
بيكاسو وهما يضحكان، ويتنفسان اللحظةَ حباً وتماهياً؟.
هما ليسا أكثرَ جمالاً بأى حالٍ، من رَقصِ ذَكَر البجعِ، وهو يُداعبُ
.« ! أنثاهُ على صفحةِ خدِّ الموجِ، فى لُجينِ مساءٍ ناعسٍ
قالت زميلتُها وهى مُمسكةٌ بالورقةِ بكلتا يديها بتعجبٍ:
.« Oh mon Dieu! »
ثم سألتْها عمَّن يكونُ هذا الغريبَ، وماذا يقصدُ؟.
رفعتْ النَّادلةُ كتفيها استنكاراً، وقالتْ لها وهى تنظر إلى اللوحةِ:
.« لا أعرِفةُ! ولا أريدُ ذلك، يكفي جَمال مُقاربتهِ.. فاللطبيعةً سِحرُها »
ثم ألقتْ نظرةً من أعلى النافذةٍ ثانيةً ومضت..
أخذَ المجنون يتمشى على جادةِ شارعِ الشانزلزيه، مُستمتعاً بجمال
الطقس، ومشهدِ أشجارِ الكِستناء المصفوفةِ بجوانبِه كالجنودِ الألمان،
60
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
عندما مر بهم الزعيمُ النازي أدولف هتلر حين احتل باريس عام
1940 م.
كانت مُزدحمةٌ كعادتها فى كل يوم، فهى تتمتع بتلك السُمعةِ
السياحيةِ العاليةِ، والقيمةِ التاريخيةِ العظيمةِ، فقد مر عليها ملوك
وأباطرة فرنسا وزعماءُ العالم، مثل هتلر والجنرال شارل ديغول الذي
حررها من الاحتلال النازى.
وقبلَ كل شيء تُعتَبر أهمَّ ملتقى للسائحين من كل أقطار العالم،
الذين يوفدون إليها متجولين بين دور السينما، والمقاهي الراقية،
والمحلات الفاخرة إلى جانب أشهرِ آثار فرنسا التاريخية، التى ظلت
كما هى دون تغييرٍ.. تذكر الرجل المجنون المثل الفرنسي الذى يقول:
.« ! كلما تغيرتْ الأشياءُ ظل أهلُ باريس على حالهم »
ابتسم مع نفسهِ وهو يرى من بعيدٍ قَوسَ النصر الذى يبدأ به
الشارعُ، بناه نابليون ليكون رمزاً يُخلد انتصارات جيوشه، وجِمالَ
ساحة كونكورد المطلة على حدائق التوليري ومتحف اللوفر.
على يمينِ الشارعِ، كان هناك بائعُ زهور غابات بولونيا البرية،
موضوعةٍ فوق أصايص بأحجامٍ مختلفةٍ، ومنحوتٍ عليها رُسومات أو
جُملٍ قصيرةٍ ذات دلالة عميقةٍ.
كان البائعُ يُقلم أظَفار شوك أغصان الأزهار الصغيرةِ بمقصِ الشجرِ،
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
61
قبل أن تلسَعه شوكةُ أجْفل يده عنها بسرعةٍ ساخطاً..
وقف المجنون قُبالتهُ، وقال له:
هل تعلمُ يا صاحٍ! أن أول تاريخٍ مكتوبٍ لزهرة الأوركيد كان »
على أيدي الصينيين منذُ 700 عام قبل الميلاد، وأن اللَّقبَ (زهرة
عطر الملوك) أطلقه عليها الفيلسوف الصينى كونفوشيوس لجمالِها
.« ؟ وغموضِها
انتصبَ البائعُ المنحى على أزهارهِ، وقال لهُ:
واعتقدوا يا سيدى، أن رؤية الأوركيد فى الحلم، تُعبِّر عن الحاجةِ »
.« للحفاظ على الحبِّ والرومانسية
ابتسم لهُ المجنون بانحناءة رأسه إلى الأمام كما يليقُ لبائعٍ زهورٍ
مُثقفٍ، ثم قال له وعلى وجههِ ذاتُ الابتسامةِ:
حسناً إذاً يا صديقى!، فإن حدث وأنت تُحاول أن تُقلم أظافر »
وَردةٍ، ثم يلسعُك شوكُها بغتةً فلا تلعنها  وحق أبيها الغُصن  لأن
هذا لا يعنى منها شيئا، سوى أنهُ غَنَجُها المُوارِب كأنثى جميلة، عاطرة
!.« الأنفاس، تشتهى تقبيلها حتى الفراشات
ثم أخرجَ صُرةً بذورٍ من حقيبتهِ المُخلاةِ، ومدها لهُ قائلاً:
قد استخدم المصريون القدماء زهرة اللوتس فى استحضارِ الله »
لجمالها، وأعتقدُ أنها يمكن أن تجلبَ لك الزبائن مُحترمي الذائقةِ
62
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
.« أيضاً
يقول البائع. .« ! لا أعرِفك أيها الغريبُ ولكنى قد أحببتك »
ابتسم له المجنون شاكراً ومضى..
كان الشانزليزيه تقُام عليه الاحتفالات بأعياد الكريسماس ورأس
السنة، ما يجعل بلدية باريس تتفنن بتغيير أشكالِه كل موسمٍ لجذب
السياح. الامر الذي يجعل أشجارهَ مكسوة بالأضواء، وساحاته غارقةً
بالسياح طوال العام.
واصل الرجل المجنون تجوّله، وعند وصولِهِ أمام مسرحِ قصر
الشانزليزيه المشهورِ بعشاقِ المُوسيقى. كانت هناك فرقةُ عازفي
الشوارعِ مُحاطةً برهطٍ من السائحين يستمعون بمتعةٍ خاصةٍ.
وقف مستمعاً، ومستمتعاً بأصوات الأوتار، ومشاهدةَ مهارة
العازفين، أخرج من حقيبتهِ المُخلاة ورقةً نقديةً، دخلَ نصفَ الدائرة،
ووضعها فى الإناء النحاسى أمام العازفين، ثم رجَع ووقف فى مكانِه.
بعد نهاية المعزوفة، صفّق مع الحضور تحيةً واحتراماً، ثم دخل إلى
الحلقةِ ووقف فى نصفها، وقال للحضور:
إن المقطوعةَ الموسيقية يا سادتى هى قصيدةُ شعرٍ.. »
 فقط  مُختلفةُ اللغةِ.
ودوماً كان للأناملِ فيها سحرُ الإلقاءِ..
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
63
حنجرةُ السايكسفون ترتلُ نشيدَ البحرِ،
..« ! عندما تستأذنُ القيثارة طيورَ الكنار لكى تغنى
سأل سائحٌ يحملُ كاميرا نيكون فى يده:
.« ؟ وماذا تقولُ عن الكمنجات »
فأجابه المجنون:
الكمنجاتُ هنّ إناث الإيقاعِ، يرقصنّ إذ ما هَمس الجيتارُ إليهنّ: »
.«.. تعالينّ إلىّ »
وأما الإيقاعُ؛ فهو مُتنفَسُ الزمنِ،
.« ضابطُ الحركة بوحاً ليُولد الانسجام
..« ؟ ولكن.. أين الأوركسترا إذاً »
يسأل عازفٌ ذو شعرٍ أشقرَ طويلٍ. رد عليه المجنونُ:
الأوركسترا هى المفاوضُ الأجملُ، ضابط توزيع الحوار الناعمُ بين »
جميعِ هذه الآلاتِ فى طقسِ نشوتِها ليُولد الانسجامَ.
ثم عليكم أن تعرِفوا يا سادتى أن موسيقى (يانى)، ليست أروعَ بأىِّ
حالٍ من نقيقِ الضفادع فى مستنقعات الأمازون البعيدةِ..
إلا بِمقدار ما يتحملهُ النغمُ من تأويلٍ.!
.« هو الصوتُ يا سادة فى تعرُجاتهِ باختلافُ المخرج
.« ؟ وكيف يكونُ ذلك التأويلُ أيها الغريبُ » 64
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
سألتهُ سائحةٌ آسيويةٌ تضَعُ نظارةً طبيةً.. أجابها بعد شيء من
الصمت:
بمعرفة الفرقِ النادرِ بين الحقيقةِ والمُتخيلِ، الحوجةُ كما يشرطُها »
الانطباعُ تُشكلُ الحَدْس. لأن معرفةَ أن القمرَ لا يعدو سوى أن يكونَ
مجردُ حجارةٍ صماءٍ، هذا لا ينسفُ جمَالَهُ مُحلقا فوق جنادل فينيسيا.
أما الانطباعُ فهو بمقاربةِ وعى أن ضابطَ الجيشِ، قد لا تُعنيهُ
صفارةَ الناى الخجولةَ وهو يُهدْهدُ المراعى، ولكن تهُزَّه جداً إيقاعاتُ
المارشال العسكرى!.
بقدر هذا يكون الاستلافُ من الذاكرة يا سادة، لإصباغ معنى مُغايرٍ،
باستراج سنام الأدب، لتُصبحَ كلُ الفراشاتِ بجمالها هى أحرفُ موسيقى
.«! حولها اللهُ إلى كائنٍ حىٍ
قال الرجلُ المجنون ذلك ثم خرَج من نصف الدائرةِ وسْط دهشةِ
الجميع، وبعد عدةِ خطوات منها سمِع صوتَ تصفيقٍ خلفه. التفت
فوجدَ الجميعَ يقابلونهُ مُصفقين ومبتسمين.. شاطرهم الابتسامَ ورفع
لهم يده مُحيياً ثم واصلَ فى طريقهِ إلى مطعمِ بتزا بينو..
كان المساءُ قد حلّ، ونداء البايولوجى قد يُعكر المزاجَ.
قال لنفسهِ. ! ..« الوقتُ عدو الإنسان »
ثم ألزمها بتنفيذ خطةِ يومهِ كما أزمعَ القيامَ بها. وتذكر أن بدايةَ
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
65
الأسبوعِ القادم رحلتُه إلى الولايات المتحدة، وكذلك تذكر مديرَ مركز
حقوق الإنسان اللطيفَ فى الخرطوم حين قال لهُ:
استمعتُ إلى بعض مُحاضراتك، وأعلم أنك تَعتبر أن العالم لا »
يزال يعوزُه الكثير، ربما هناك بعضُ الأماكن فى باريس عليك زيارتها
!.«
ثم وقفَ وصافحهُ.. قال لهُ المجنون حينها:
.« نعم!، هناك بعض الأماكن فى باريس تنادينى تعال إلي »
وصل بتزا بينو وكان يقعُ على رأسِ زاويةٍ جميلةٍ فى الشانزليزيه
تمنحهُ جمالاً إضافياً لتلك الشهرة. فهو من أشهرِ المطاعمِ فى العالم،
ومعروفٌ ببتزتهُ، وأكلاتهِ الإيطالية المتنوعةِ.
جلس على طاولةٍ قربَ النافذةِ كعادتهِ، نظر عبر زجاجِها لوهلةٍ، ثم
أخذ المانيو يتصفحهُ ببطء. همسَ قربهُ صوتُ فتاةٍ جميلٌ ومُهذبٌ:
.« ؟ كيف يمكننى مساعدتك سيدى »
التفت إليها فكانت فرنسيةٍ شقراءَ وديعةَ الملامحِ، وحُلوة الابتسامِ.
.« ليس بالكثير يا آنسة »
ثم أشار بإصبعهِ إلى صورةِ وجبةٍ إيطاليةٍ بالمكرونة والصوص،
وطلب عصيرَ المانجو المخلوطَ معها. ابتسمت له العاملةُ ثانيةً،
وقالت له:
66
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
سيكون أمامك فى أقرب وقتٍ ممكن سيدى، هل هناك شىءٌ آخر »
.« ؟ يمكننى مساعدتك فيه
.« ! لا شكراً »
غادرت مُنتعلةً ابتسامَتها تلك، واتكأ هو على كرسيه، وأخذَ يتأملُ
فى لوحةِ موتِ الجنودِ الفرنسيين فى الحرب العالمية الثانية، تذكر
كيف خُدعوا فى هجومِ ( أردين ) الذي أسماه رئيس الوزراء البريطاني
حينها تم فصلَ قواتِ الحلفاءِ الرئيسيةِ عن بقية « ضربةَ المنجل »
القواتِ وقطعَ عنها الإمدادات، ما أدى في النهاية إلى عزلها وسقوط
فرنسا.
قطع شرودَهُ صوتُ أقدام النادلة وهى تَضَعُ طلبَهُ أمامهُ على
الطاولة، قال لها قبل أن تُغادر، ودون أن يلتفت إليها وهو يُخرج
الملعقةَ والشوكةَ من المنديل الملفوف عليهما:
أعجبتنى رقتُكِ يا آنسة، فالرقةُ هى نِصفُ الأنوثةِ، ومعرفةُ التعاملِ »
.« معها هى الرجولةُ كُلُّها
وقفت مكانها مُتعجبةً لمدة كمن تُفكر، ثم التفتت نحوهُ وسألتْهُ
وعلى فمها ابتسامةٌ ماكرةٌ:
هل هذا يعنى بالمقابل أن الخشونةَ هى نصف الرجولةِ، ومعرفةَ »
.« ؟ التعاملِ معها هى الأنوثةٌ كُلها
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
67
أجابها وهو يضعُ بعضَ البُهارِ على صحن المكرونة أمامَهُ، ودون أن
يلتفتَ إليها أيضاً:
.« هذا إذا كانت الخشونةُ توازى الرقةَ فى النساء »
سألتهُ بسرعة، وهى تسُدل عينيها بتوقعٍ وانتظارٍ:
.« ! وماذا توُازى إذاً »
وضع قنينةَ البُهارِ فى مكانِها، ثم نظر إليها وقال فى هدوء:
.« ! الحماقةُ »
سألتهُ باندهاشٍ. .«؟ ماذا »
أجابها المجنون بذات البرودِ:
الحماقةُ!، إن الرجال حُمقاء يا آنستى، ومعرفةُ التعاملِ مع »
.«! حماقتهم تلك هى الأنوثةُ كلُّها
نظرت إليهِ بتعجب، ثم غادرت دون أن تقول شيئاً..
استوقفها بعد عِدة خطوات منادياً.. التفتت نحوه فقال لها:
خداكِ جميلان أيضاً، والأجملُ فى حديثى تواً ليس صدقَهُ، بل إنهُ »
صحى وجنتيك، لأن الوجنةَ على خدِ فتاةٍ جميلةٍ هى مدينةٌ نائمةٌ،
.« تصحو إذ ما طرقَ أحدهم أُذنها بِطُرفة تتوسلُ شفتيها الابتسامَ
ثم غمز لها بعينهِ الشمال، وهو يرفع الملعقة صوب فمه.. ابتسمت
مغتبطةً، ونظرتْ إليه لفترةٍ، ثم غادرتْ وهى تهُز رأسها بين الإعجاب
68
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
والاستغرابِ.
واصل طعامَهُ وهو يستمعُ إلى الموسيقى الهادئةِ فى المطعم،
كلود » فيغمض عينيه أحياناً ويهز رأسَه معها. قد أشجاه عزفُ بيانو
وهو واحدٌ من أشهر وأهم مؤلفى الموسيقى فى .« أشيل ديبوسى
فرنسا وواحدٌ من أهم المؤلفين فى القرن العشرين.
بعد مُدةٍ قصيرةٍ رجعتْ إليه النادلةُ ثانيةً، وجلست فى المقعد الذى
قُبالتهُ. ثم نظرت فى عينيه لوهلة، وسألتهُ:
.« ؟ من أين أنت »
يُجيب. .« من شرقِ إفريقيا، وشمالِ خط الاستواء »
..« نعم، إن هذا يبدو واضحاً من لون سِحنتك »
قال لها وهو يمسح بالمنديل على فمهِ:
بالتأكيد! فقد صبغت شمسُ سمائى الضاحك جلدى باللونِ »
قالت لهُ وهى تضحك هذه المرة: ..« الأسمر
.« ؟ لغتك لطيفةٌ، ماذا تفعل فى باريس »
أجابها وهو ينظرُ إلى المنديلِ الذى يُطبقه:
محطة! أبحثُ فيها عن المعنى، ولعلِّى أجدُ فيها بعضَ عزاء الحزنِ »
.« الإنسانى
قالتْ له وقد أغبطتها إجابتهُ هذه:
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
69
اسمع! أنا لا أعرِفك، ولكن هل تمانعُ إن عزمتَك على فنجانِ »
.« ؟ قهوة
وقف المجنون مكانَه، وأخرجَ من حقيبتهِ المُخلاة بطاقةَ الفندقِ
ورقمَ غرفتِه، مدهما لها مبتسماً وخرجَ.
لحُسن حظِّهِ؛ كان هناك باص يُنزل بعضَ السياح ويرفع آخرين،
ابتسم بسعادةٍ عندما أجابه أحد الواقفين فى المحطةِ، إن الباص
سيتجه إلى حدائقَ (تويليريز) الجميلةِ، التى قامت الملكة كاثرين
باستقدام مهندسٍ مختصٍ في التجميلِ لبناءِ الحديقةِ على غرارِ النمطِ
السائدِ في عهدِ النهضةِ الإيطالية. فهى من أكبر وأجمل الحدائق في
باريس، وتؤدى كذلك لمتحف اللوفر الذى يقصده.
صعد الباص السياحى الأنيق، وجلس قُرب سائحٍ عجوزٍ قربَ النافذةِ،
التفت نحوه وعلى محياه ابتسامةٌ كسولةٌ. ثم قال له بالفرنسية مُرحباً:
.« bienvenue!..»
ابتسم له المجنون، ثم قال وهو يهُز رأسَه تحيةً:
.« Merci!..»
ثم عاود النظرَ عبر النافذةِ للمشاةِ، ومنظرِ الأشجارِ التى تبدو مع
سرعة الباص وكأنها لونٌ أخضر مدلوقٌ على صفحةِ الزجاج. تلفَّت
العجوزُ قبالتَهُ ثانيةً وعلى وجهه ذاتُ الابتسامةِ الكسولةِ تلك، وقال
70
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
له:
.« ؟ هل ترى ذلك المكانَ هناك »
ثم أشار بأصبعهِ إلى نافورةٍ فى ساحةٍ صغيرةٍ، يقف عندها بعضُ
السائحين يلتقطون الصور.
قبل أربعين عاماً ( يقول العجوز) كانت هناك شجرةٌ هنديةٌ »
.« كبيرةٌ قابلتُ فيها تريزا..
ثم تكلّم عنها إذ كيف كانت رومانسيةً تحبُ الصيدَ والتصويرَ. قال
إنها كانت تدرسُ فى جامعةِ (تولوز) فنَ النحتِ، وكان هو فى جامعةِ
لندن طالبَ قانون.
ثم أخرج صورةً من محفظتهِ، وناولها إلى الرجلِ المجنون. كانت
صورةً قديمةً باللونين الأبيضِ والأسودِ لشابٍ وسيمٍ، وفتاةٍ جميلةٍ
تطفو من على ملامحها وداعةٌ وحاليميةُ.
بدأ العجوز يحكى قصتهما وكيف قابلها هناك. قال إنها كانت
جميلةً، ومثقفةً وحلوةَ التعابيرِ بين الجمل. وكان هو فى الخامسةِ
والعشرين من عمره. تكلما عن كل شىء. الشعرَ والتاريخَ، الصيفَ،
والبحرَ والخنافسَ. وضحكا مَلء المصادفةِ والمشاوير. وافترقا كعابرين
.« دون دموعٍ وبعض الابتسامات العابرة
كان يحكى وعيناه هنا، وبصرَهُ فى الذاكرة.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
71
عجوزٌ هو الآن كما الذكريات، وقد عمقت أخاديدهُ، ولكنهُ قد
تذكّرها وهو فى الخامسةِ والستين من عمرهِ، وهو ينظرُ عبر النافذةِ
لذات المكانِ. التفتَ إليه المجنون وقال له:
صدقت، فإن تلك العلاقاتِ العابرةَ الصغيرةَ فى حياتنا، هى ليست »
.« سوى حياتِنا نفسها
ابتسم له العجوزُ وهو يحاولُ النهوضَ من مقعده، قبل أن تتصلُ
عليه زوجتُهُ العجوزُ فى الهاتف.
كان الباص قد وصل إلى حديقةِ تويليريز، تذكر المجنونُ وهو
يتجولُ فيها أن بعض الفنانين كانوا ينجزون أعمالَهم تحت أشجارها،
مثل الروسي (أوسيب زادكين) الذي عاش في القرن العشرين، وكان
يُبدع أعمالَه النحتيةَ تحت أشجارِ الحدائق المزدانةِ بالأعمالِ الرائعةِ.
كتب في أحدِ الأيام لصديقٍ له:
تعالَ وانظر لمنزلي، وستفْهم كيف يمكنُ أن تغيّرَ بيوتُ الحمامِ »
.« والأشجارِ من حياة المرءِ
ابتسم المجنون مع نفسهِ قبل أن يسمعَ صوتًا خلفهُ ينادى عليه،
التفتَ جهتَهُ فكان شابًا برفقة فتاةٍ طلبا منهُ أن يلتقطَ لهما صورةً. أخذَ
الكاميرا منهما وابتعدَ مسافةً ثم أخذَ لهما لقطةً والشابُ يضعُ ذراعَهُ
فوقَ أكتافِ حبيبتهِ.
72
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
تقدم صوبَها وقبل أن يُرجع لهما الكاميرا، قلَّبها فى يدهِ قليلاً ثم قال
لهما وهو يمدها إلى الشاب:
.« إنها كاميرا جميلةٌ، تصلحُ تماماً لتخليدِ اللحظاتِ »
ابتسمَ له الشابان بودٍ، ثم قالت له الفتاة:
.« لأنى أحبُ التصويرَ فقد أهداها لى فى عيد ميلادى السابق »
هذا رائعٌ حقاً ( يقول المجنون ) ثم نظرَ إلى حبيبها وقال له »
مُداعباً:
أنت الآن متورطٌ عاطفياً مع فتاةٍ تحُب التصويرَ، احذرْ منها كثيراً »
نظرتْ الفتاةُ إلى حبيبها مُستعجبةً، فسألهُ الشابُ: .« إذاً
.« ؟ ولكن!، لماذا »
أجابهُ المجنونُ وهو يضحك:
لأنهُ فى مُغالطاتك الصغيرةِ معها يا صديقى، هى دوماً ستنتصرُ »
عليك. ليس لأنها تحُبُ إيقاظَتك كما تفعلُ ربما أنت دوماً، ولكن
احذرها لأن لها ذاكرتين. فإن حدث وقد نسيت ذاكرتها الشخصية،
.« ذكرتها ذاكرة الكاميرا التى لا تعرِف أبداً كيف تسهو
ضحكت الفتاةُ ورفيقُها الذى ضمها عليهِ من كتفها أكثر.
ثم تقدمتْ صوبَ المجنون وصافحتهُ مُعرفةً بنفسها، ومعبرةً له عن
إعجابِها بذكاءِ ولطافةِ طُرفتهِ، وكذلك فعل حبيبُها..
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
73
حياهما بودٍ ثم اتّجه إلى متحفِ اللوفر الذى كان يقصدهُ.
كان متحفُ اللوفر يقعُ على الضفةِ الشمالية لنهر السين، وهو يُعتبر
أكبر صالةَ عرضٍ فنى فى العالم، وروعةَ ما تنفست عنهُ الحضاراتُ
على مر العصور.. يضمَ تشكيلةً واسعةً من الآثار الإغريقيةِ، والتماثيلَ
الرومانية والمصرية، ومنحوتات بلاد الرافدين القديمة.
دخلَ الرجلُ المجنونُ المتحفَ من خلال الهرمِ الزجاجى المؤدى إلى
القاعةِ الكبرى. وقف أمامَ تمثالَ (فينوس دى ميلو) لفترةٍ، ثم واصلَ
تجوالهُ بين اللوحاتِ النادرةِ لعباقرةِ الرسامين، والتى يَرجع بعضَها
إلى القرن السادس عشر.
وقف أمامَ لوحة (الموناليزا) طويلاً وهو يَتأملُها، ويَستمعُ إلى
تعليقاتِ السُياح عنها، فقال لهم بصوتٍ مُرتفع:
.« ؟ هل تعلمون لماذا أبدعَ دافنشى فى رسمِ هذه المادونا »
سألهُ الرجلُ الذى يقف قربهُ باهتمامٍ. .« ؟ لماذا »
أجابه المجنون دون أن يُحوّلَ نظرَه عن اللوحةِ:
لأنهُ قد اشتهاها!، وكان تابوه الداخلى أكبرَ من هذا التصالح، »
فتنفس على هذا القماشِ لوناً تجثو لهُ الريشةُ.
ثم إن هذه الابتسامةَ التى حيرت الناقدين والمحللين فيكم. لم
يؤجر دافنشى لها مُهرجاً كى يجعلها تحافظ عليها عندما كان يرسمها
74
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
كما يدعون. بل يكمُن سرها فى هذه المواربةِ بين الرغبةِ والمكبوت
.« عنده فى اللا وعى بالقيم
سألت امرأةٌ وهى تعُدّل من نظارتها:
هل تقَصدُ الأنا العليا بالمفهوم الفرودى هى سببُ هذا الإبداعِ؟ »

« ... بل أقصدُ الميتاسيكولوجيا الفرويدية »
ثم يُواصلَ وهو يلتفتُ إليها:
فى المسافةِ بينها والهو!. لأن الاشتهاءَ لها هو غريزى تدعمهُ »
معاييرُ مُعقدةٌ فى تكوينها، كما أن زوجَها بصفتهِ صديقَه قد حرك
التابو لديهِ فى طفولتهِ اللاواعية، تلك المتشظيةُ بين غيابِ أبيهُ كفِعل
قسوةٍ اجتماعى، ورأفةِ أمٍ أكثرت من تقبيلهِ. وهنا يمكنُ أن تفهموا
.« سرَ هذه الابتسامةِ فى تصديرِ غموضِ مدلُولِها للمُشاهد
سأل شابٌ وهو يمسحُ بكفهِ على خدّه، وكأن الكلامَ قد أصابَ شيئاً
عندهُ:
.« ؟ وهل لهذا علاقةٌ بشذوذه الجنسى كما يُشاع »
أجابهُ المجنون وهو يشبّك يديهِ خلفَ ظهرهِ، وينظرُ للوحةِ ثانيةً:
!.« هذا ليس السؤال »
صاح الشابُ فى تعجبٍ:
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
75
..« ! وما السؤالُ إذًا »
هو أن كيف رينالدو استطاع أن ينقلَ كلَّ ذاك الإحساسِ المتناقضِ »
داخله إلى الريشة، بل يجعلُ اللوحةَ أكثرَ صدقاً من الصورةِ الفتوغرافية
لإضافة الحركيةِ فيها.. وهذه الحركية هى التى توُلد عندك انطباعاً أياً
.«!( كان هو الذى ما تسمونهُ أنتم (بالروح
هكذا أجابهُ المجنونُ ثم غادرَ دون أن يلتفتَ إليهِ، تاركاً إياه، وجميعَ
الذين أمام لوحةِ الموناليزا يتتبعونهُ بالنظراتِ مذهُولين.
واصلَ تجوّلهُ بين أجزاءِ المتحفِ المقسمةِ إلى حسبِ نوعِ الفنِ
وتاريخهِ. وعند وصولهِ إلى الجزءِ الخاصِ بالآثارِ الشرقِ أوسطية، والتي
سرقها الأوروبيون خلال حملاتِهم الصليبية، والاستعماريةَ على تلك
البلاد.
استأذن من رجلٍ يقفُ قربَهُ، ثم أخذَ قصاصةَ ورقٍ قصيرةً من تلك
التى يَضعونها قربَ التماثيلِ والتُحف لتعليقاتِ السياح.. كتب عليها
بخطٍ عريض:
أنتم لم تسرقوا بهذا آثارَ الشعوبِ فقط، بل قد صادرتم ذاكرتَها »
ثم علّقها على اللوحة وسْط عشرات التعاليقِ الأخرى ومضى.. .«! أيضاً
كان اللّوفر مزحومٌ كعادتهِ، تقدم المجنون بين جحافلِ السياح،
يستأذن هذا، ويعتذر من ذاك، حتى وصل إلى تمثالٍ ضخمٍ ينتمى إلى
76
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
العصرِ الرومانى. صعدَ ووقف فوقَ القاعدةِ العاليةَ، ثم قال للسُياح
المندهشين منهُ:
يتمايلُونى الإغراءُ أيها السادة، وأن اخبركم أن ( تنين البحر »
العشبى)( 1) الجميل، فى الساحلِ الأسترالى فى طريقهِ إلى الانقراضِ!.
ليس بداء الطاعون عندما شبّ فى هذه المدينةِ قبل مئتين عامٍ، بل
بسببِ ذاتِ الإنسانِ الذى يُمكنُ أن يمارسَ بكل بساطةٍ القتلَ كفعلِ
مُتعةٍ حتى لأخيهِ الذى يشاركهُ البكاءَ.
الإنسانُ لم يؤنسن بعدُ أيها السادة، فما زال فصيلاً حيوانياً يمكن
أن نسميهِ بشرا!. ولكنهُ لم يؤنسن بعد كما يجب. لم يَفهم أنّهُ يغتالُ
الجمالَ بحبهِ للجمال ذاتهُ.
جمالُ تنين البحرِ العشبى كان ضدهُ، ذلك البنفسج يا سادتى
المُتموج أسفلِ بطنه كان دافِعكم لقتلكُم إياه، تماماً كما أن هذا
العقل الذى فوق جماجِمكم هو ضدَّكم حينما تنتجون فنَّ الحروب
.« والقتلِ المنظمِ
كان هنا قد اجتمع السُياح من جميع أقسام المتحف، يستمعون
وينظرون إليهِ بتعجبٍ واستغراب.. صاح سائحٌ من بعيد يبدو مُهتماً:
1) تنين البحر العشبي من أجمل الكائنات البحرية، يعيشُ في الساحل الجنوبي والغربي لأستراليا وكذلك )
حول تلسمانيا، مُهدد بالانقراض بسبب التلوث وتأثير الصناعة، بالإضافة إلى اصطياده من قبل الغواصين المعجبين
بشكله المميز.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
77
.« ؟ ماذا تقصد أيها الغريبُ »
أقصدُ أن البشرَ أنانيون يا سادتى فى رحلةِ البحثِ عن أنَاهم »
فى هذه الحياة.. يلغون الآخرَ ببساطةٍ ليعيشوا الآنى من المُتع.. لم
يفهموا بعد أن ذاتِ الآخر الذى يلغوه هو شرطُ وجودِهم نفسهُ لو
استوعبوا المفارقةَ.
فجميلةٌ هى الحياةُ لو عرَفتم أن الأشياءَ جامدةٌ ونحنُ نعطيها
الدلالات.. والدلالةُ هى فعلٌ مُؤنسن لا ممنوح ميتوى.
وربما الآن يمكنكم أن تعرِفوا أن إقامتَنا المتاحفَ هى ليست
سوى محاولةٍ يائسةٍ لاستحضار التاريخِ، البحث عن المعنى كما قال
به الأجدادُ.. إنها النوستالجيا كفعل تماسك وجودى، الحوجةُ لبعض
العزاء.. كل محاولاتكم لاستحضاره هى نداءُ الميثولوجى فيكم لصورِ
الأبِ الحامى، وهى ذات الصورةِ التى كان الذاتُ المُطلق نتوجها.
لأن رحلةَ البحثِ عن المعنى فى الحياةِ، قد تكون هي المعنى ذاتهُ
الذى عنهُ تبحثون. فليس فى التاريخ عِبر بالطريقة التى تنشدون أيها
السادة، لأن مُحرّكه الغريزةَ وعاملُ الوعى فيه ثانوى.
ولذا تتكرر ذاتُ التفاصيلِ على مر العصورِ فقط فى موضوعى
مُغاير، ليس لأن الشُعوبَ والحكوماتِ لم تتعلم شيئاً قط من التاريخ
.«! كما قال هيغل، بل لأن الإنسانَ لم يستطع أن يؤنسن الغريزى فيه
78
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
رفع رجلٌ عجوزٌ يده، ثم سألهُ وهو يحكُ على ذقنهِ:
.« ؟ وما حقيقةُ التاريخِ إذاً »
يجيبهُ المجنون ثم يستطرد: ..« ليس هناك حقيقةٌ فى التاريخ »
وأن الذى نعرِفهُ عن التاريخ هو ليس التاريخ، بل ما حكاه لنا »
مُدونهُ. المؤرخ أعنى، ذاك الذى لم يخرج من أيديولوجيتهِ قَيْد أنملة.
وبذا نحن لا نعرِف ما الذى حدث، بل نعرِف الذى حدث  بوسيط
هو شخصُ المؤرخ نفسهُ الذى يفتقد الحرية لأنهُ راضخ لذاته والانتماء،
مُزعنٌ هو وإن لم يكن يعلم ذلك، لأن ذات المُؤرخ هو مثلكم يا
.« ! سادتى الكرام ضحيةُ مؤرخٍ كان أيضاً هو ضحيةُ مؤرخٍ غيره
دار لغطٌ بين الحضورِ بصوتٍ عالٍ، أصبح كلَّ شخصين أو ثلاثة
يتناقشان فى جزئية مما قاله المجنون، الأمر الذى جعل حرسَ
المتحف يُحاول توقيفهُ، ولكنَّ اعتراضَ بعضِ السياح ومطالبتهم بتركه
ينهى كلامهُ الذى يرونهُ مهما قد حال دون ذلك.
اتصلت إدارةُ الحرسِ بإدارة المتحفِ.. حضر المديرُ بروفيسور ايدور
فليكسن الذى جاء مُسرعاً، بصحبةِ نائبتهِ دكتور إيلين، ومعهما معظمُ
الطاقم العاملِ فى الإدارة.
وقف البروفيسور فى نصف الحضور المُحتشد، نظر بتعجبٍ إلى
الرجل المجنونِ الواقفِ فوقَ قاعدةِ التمثالِ الرومانى الضخم، ثم سأل:
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
79
.« ؟ ما الذى يجرى هنا بحق الجحيم »
حاول الحرسُ أن يخبرَه بالذى قال المجنون. والذى ينظر إليهما وكأن
الأمرَ لا يعنيه، وذكر له الحرسُ بعضَ عباراتهِ ثم ختم كلامَهُ قائلاً:
.« وبعضُ الحضورِ يحبذونَ حديثَهُ يا سيدى، ويريدونهُ أن يستمرَ »
ولكن الذى ذكروه لى تواً من قولك، لا ينسفُ أن هناك حقيقةً فى »
.« التاريخ يمكنُ الركونُ إليها أيها الغريب
يقول البرفيسور موجهاً كلامَهُ للمجنون.
ليست هناك حقيقةً يا سيدى (يجيبهُ المجنون)، وأن الذى ندعوها »
بالحقيقةِ ما هى سوى أقربِ أوهامنا إلينا. بل أنت نفسك لستَ سوى
تصورِك عن ذاتك، وهذا التصورُ موهومٌ عن نفسك لاقترانهُ برغبتِك
في (أناك) الذى تريدهُ. كما أن الآخرين يتصورونك بشكلٍ مُغاير
عن الذى تظنّهُ عن نفسك، وهؤلاء الآخرون هم كلُّ واحدٍ على حدة..
فأنت إذاً مُتشظٍ بين وهمك في ذاتك، ووهم الآخرين المختلفين
.« ؟ في تصوراتهم عنك، فأين أنت إذاً وأين حقيقتُك فى هذا الركامِ
نظر البروفيسور لنائبتهِ الُمختصةِ فى الإنسانيات، والتى سألتهُ
بدورها قائلة:
.« ؟ وماذا عن التجربةِ أيها الغريبُ »
أجابها المجنون وهو يشير بأصبعهِ إلى مومياء لإنسانٍ بدائى
80
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
موضوعةً فى صندوقٍ زجاجى:
هل ترين ذاك الذى كان بينهُ وجدِّك السابعِ، مسافة الذى بين »
الشامبو الموجود الآن فى حمامك الحضارى الأنيق وشعرِ زوجتهِ
.« ؟ الُمجعَّد
نظرت الدكتورة جهةَ المومياء مُقرِنة حاجبيها باستغرابٍ..
أضاف المجنون:
ذلك الشخص يا سيدتى كانت لديهِ تجربتُهُ الذاتية التى تنُاسب »
طردياً حوجتهِ الموضوعية فى ذاك الزمان. لأن التجربةَ هى ذاتيةُ
التوالدِ بالاحتكاكِ ومسقوفةٍ بالحوجة.
توارثها لن يجلب السعادةَ كما تتوقعون، بل ينتج التكررَ.
لأن ليس فى هذا الكوكبِ الصغير(سعادةً)أصلاً بالمعنى الذى
تحلمون يا سادتى، بل هناك (مُعاناة). قانونُ الانتخابِ الطبيعى
وحوجاتُ البقاءِ أفرزَ المعاناةَ. ولهذا ابتكرنا الفنونَ، والآدابَ العظيمةَ،
.« والمتاحفَ فى رحلةِ البحثِ عن المعنى فى فوضى هذا التاريخ
سألتْ سيدة جميلة تضعُ نظارةً شمسيةً على شعْرها:
.« ؟ وما هى هذه الحالةُ التى ننشدها (نحن) ونسميها سعادةً »
إنها قيمةٌ نسبيةٌ، وهى ليست سوى البديلِ المُهذّب الذى ننعتهُ »
.« كتمييزٍ نوعيٍ لمرحلةٍ عُليا فى تقليلِ هذه المُعاناة
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
81
أجابها المجنون.. ثم استرسل:
ولهذا.. إن هذه المومياء التى ترينها الآن، هى لفرعونٍ مصرى »
من ثلاثة آلاف عامٍ قبل أن تضَعَ السيدةُ مريم ابنَها المسيحَ، ولكنكِ
لن تجزمى أبداً أنك أكثرَ سعادةً  بمفهومكِ  من زوجتهِ التى كانت
تُؤمن بأن الجسدَ هو منزل (الكا) أو القرين، وأنتِ الآن تحملين العالِمَ
كلهُ فى جهاز هاتفِك الذكى الذى لم تكنْ لتتخيلهُ ذات الزوجةِ النافلةِ
!.« بأى حالٍ، وإن استلفت خيالَ آينشتاين وبعضَ عقاقير سعةِ الخيال
يقول رجلٌ أنيقٌ يحملُ كتاباً من بعيدٍ:
قد صدقت! نحنُ هنا نبحثُ عن القيمةِ أيها الصديق، أرهقنا »
البحثُ عن المعنى وماهية الوجود، المأثوراتُ الصفراءُ لم تقُدم
أجوبة، فاخترنا المشى بين مُخلفات الأسلافِ علَّهُ يمنحُنا بعضَ تماسُكٍ
.« نحتاجهُ
قال لهُ المجنون وهو يهزُ رأسهُ تفهماً:
نعم! هو البحثُ عن القيمةِ.. وهنا يأتى جمال المتحف كصندوق »
حلوةٍ متنوعةٍ بجميل خلاصةِ العصور، وفى بحثِ الإنسانِ عن أناه.
وهنا أيضاً تكمن القيمةَ المؤنسنة المتعديةَ للبشرى المُتبقى من
.« .. الحيوانِ فينا
صاح مجموعةٌ من السياحِ فى وقتٍ واحدٍ:
82
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
.« ! ولكن، ما العملُ أيها الغريبُ، ما العملُ »
الوعى بها قد يُقلل المعاناةَ فيها( يُجيب المجنون)، الوعى »
بالحياة أعنى. وذاك بأن نفهم، أن تلك المساحةَ بين إن كنا كائِنَات
منوية فى ظهر آبائنا، وبين أن نصيرَ دوداً يضمنا القبرُ..
فى هذه المسافةِ بالتحديد، يوجدُ الذى نسميهِ (الحياة!).
وهى تختلف نوعياً عن الكائنِ المنُوى الذى كناه، والدودِ الذى
سنكونهُ فى مستقبلنا بعد الممات.. تختلف فى شيءٍ واحدٍ فقط وهو
أننا( نعِيها!).
ولأننا لا نذكرُ كيف كنا فى ظهرِ آبائنا، ولا نعرِف كيف سنكون
وجسدُنا فى التراب قد تحوَّل دوداً وكربوهيدرات.
ولأننا نعى هذه الفترةَ بينهما: (هذه الحياة).
ونحنُ مُلزمون أن نعيشها، ولأنها عبثيةُ ولا تحملُ معناً، علينا أن
نصنعُ فيها معنانا الخاصَ إذاً، ونكونهُ دون أن نُضرَ آخرنا النقيضَ.
وهذا لن يتمَ إلاّ بالأنسنةِ كشرطِ تعايُشٍ أيها السادة، كفعلٍ قيمى
مقصُودٍ بوعى، بأن نفهمَ أن ما الآخرون سوى نحنُ أنفسنا فى تشظينا
الصدفى على الجغرافية. وهم يشاركوننا الحلمَ ذاتهُ بالسعادةِ،
.« وينشدون فى سريرتهم السلام
قال الرجلُ المجنون لهم ذلك، ثم نظر خلفهم وسألهم فجأةً:
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
83
.« ؟ ولكن! لماذا يا ترى لم يجعلْ تيتان هذا الوجه مبتسماً »
ثم أشار بأصبعه إلى لوحةٍ معلقةٍ فى الخلفِ، وعندما نظر جميعُ
السُياح إلى الوراء كانت اللوحةُ رائعة (فرانسيس الاول) للرسام تيتان.
وعندما التفت الجميع ثانيةً، لم يكن الرجلُ المجنون هناك!.
كان هذا الحدث قد قلبَ باريس رأساً على عقب، قد تناقلتهُ أكبرُ
وأشهرُ الصحفِ الفرنسيةِ والأوربية عامة، وأديرت حوله البرامجُ
التلفزيونية مساء اليوم التالى. وكان حديثُ مقاهى المثقفين فى
الحي اللاتيني، وجادة (سان جيرمان) في وسط باريس التي اشتهرت
بمقاهٍ يرتادُها كِبارُ الكُتّابِ والصحفيين.
حللوا خطابَهُ وما قاله هناك.. وهم يدخنون لِفافات سجائر ماييس
الصفراء. تناولوا فلسفَتهِ عن مفهومِ الأنسنة وحركةِ التاريخ. قال
أحدُهم للآخر وهو يطفئ سيجارتهِ على المنفضة النحاسيةِ أمامهُ:
أعتقد أن هذا الرجلَ المجنون قد خرج من كتابِ (تاريخ الجنون »
.« فى العصر الكلاسيكى) لميشل فوكو
قال آخر، وهو يُعدل من نظارتهِ الطبيةِ الضخمة:
بعد رجوعى إلى الجرائد السودانية، وقراءتى لكل الذى قالهُ »
.« هناك، أظن أنهُ فيلسوفٌ إصلاحى ثورى
قال لهم الفتى الذى يمسحُ أرضيةُ المقهى قربهم:
84
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
هو ليس كل الذى عنهُ تقولون، إنهُ شخصٌ عادى وطيبٌ للغاية. »
جاء هنا صباح اليوم يحتسى قهوتَهُ، وتجاذبتُ معه أطْرافَ الحديثِ
.« بينما كُنتُ مُحبطاً
سأله مثقفٌ مهتمٌ وهو يعدل من جلستهِ:
.« ؟ ماذا قال لك بالضبط »
 قال لى بعد أن سمِع قصتى:
ألّا أجلد ذاتى، وأندمَ على شىء فعلتهُ.. »
لأن تلك الأخطاءَ الصغيرةَ فى حياتنا، تلك التى غيَّرت مسيرة حياتنا
كُلها. هى لم تكن أخطاءٌ وقت أن فعلناها، بل كانت الفعلَ الذى
اعتقدناهُ صوابا وقتها وفعلناه بملء إرادتنا.
فليس هناك أخطاءٌ بالمفهوم المطلق، بل أيضاً هناك أفعالٌ صواب
تحولت إلى أخطاءٍ لأنها لم تتسقْ وتصورنا المبدئى لها، فحتى الساعة
.« ! الواقفة تكون صحيحةً مرتين فى اليوم
بذا أجابهم الفتى عاملُ المقهى، ثم غادر تاركاً إياهم ينظرون إلى
بعضهم مُتعجبين.
مرَت الأيامُ بسرعة؛ وباريس تدُلل سُكانَها وزائريها من العشاق،
والسائحين بلطيف أُنسٍ كل ليلة.. المطاعمُ الفخمةُ تَعِجُ بطلبات
الزبائن، موسيقى الجاز فى الحانات تتبادر إلى المسامعِ مع بحّات
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
85
أصواتٍ لنساءٍ تعوّدن تدخين سجائرَ جيتان ذات النكهةِ الخاصة.
هى ذي باريس، واللوفر يستقبلُ الوافدين ومُحبى التاريخ
والإنسانيات، الشانزليزيه يغرق فى أضوائهِ الجميلةِ كل ليلة، ونقاشات
فى المقاهى لا تنتهى بين الكُتاب والمُهتمين عن الذى قالهُ المجنون
فى متحف اللوفر.
وفى ذات أحد؛ والرجلُ المجنون فى إجازتهِ من المعرفة. ينهضُ فى
غرفتهِ فى الفندق مُثقل الخطى، يعدُ قهوتهُ بكسلٍ جميل. يتصفحُ
جرائد الصباح الصادرة فى باريس،النشاطات والمعارض، حالة الطقس
المعتدلة كالعادة، يُرتب أشياءه فى حقيبتهِ المُخلاةِ للسفر غداً إلى
الولايات المتحدة.
يرنُ هاتفُ غرفتهِ، كانت عاملةَ الاستقبالِ فى الفندق تخبرهُ بمكالمةٍ
له على الهاتفِ، استقبل المكالمة.. فجاءه صوتُ فتاةٍ عذبٍ سائلاً:
.« ؟ أخبرنى.. ما هو أجملُ ما فى الحبيبة »
ابتسم المجنونُ مع نفسهِ، ثم قال لها:
إنها مشروعٌ دائمٌ للخطيبةِ، تلك التى تشتهى الدبلةَ أنامِلُها فى »
.« ذات مساءٍ عذبٍ تطُوقهُ كاميرات الأصدقاء
أممم، هكذا هَمَست كمن تُفكر.. قبل ان تسألهُ مجدداً:
.« ؟ وما أجملُ ما فى الخطيبة » 86
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
أجابها بذاتِ الهدوء، وعلى وجههِ ابتسامةٌ لا يمكن أن تراها عبر
الهاتفِ:
.« ضحكتها فرحاً، حين تفاجئها بتحديد يومِ الزفاف »
سألتهُ وهى تضحك. .« ؟ وما هو أجمل ما فى الزوجةِ إذاً »
أجابها بسرعة:
أن تُجيد إعدادَ القهوةَ كما يَليقُ بالمزاج، وتعرِفُ كيف ترُتبُ »
المكتبةَ، تشاركك لطيف حوارٍ فيها، وتقاسمُك المشاوير، التفاصيل،
.« الغناء
ثم تضحك مجدداً وهى تسألهُ: .« ( حسناً! أيها الماكر( تقول لهُ »
.« ؟ ما هو الأجمل إذاً من الحبيبةِ، والخطيبةِ، والزوجة معاً »
قال لها المجنون بعد ضحكةٍ صغيرةٍ:
.« هو احتمال أنثى ستأتى لتكون مشروعاً رائعاً لكل ذلك »
فضحكا وتواعدا أن يلتقيا مساءً تحت برج إيفل ليحتسيا القهوة كما
اتفقا، فقد كانت تلك الفتاةُ هى ميشيل التى قابلها فى مطعم بيتزا
بينو فى شارع الشانزليزيه.
رتب الرجل المجنون تفاصيلَ سفره صباح الغد.. تأكد من رقمِ
ومواعيد الرحلة، الحجوزات فى واشنطن، مُراجعةِ خطابِ مركزِ حقوقِ
الإنسان، اسم المنظمة التى ستتكفل بأيامهِ الأولى هناك.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
87
انقضى الوقتُ بسرعة، وأخذ المساء يمدُ ذراعَهُ، ويُغرِق باريس فى
روعةِ تفاصيلِها المسائية الحالمةِ، ما جعلَهُ يُقرر المشى، والاستمتاعَ
بطقسِ المطر الباريسى الخفيفِ فى يومهِ الأخير فيها.
الشوارعُ بكامل بهجتها تستقبلُ الزوارَ من جميعِ بلدان العالم،
الساحاتُ مُكتظةٌ بالسُياحِ، والعاشقين الفرحين بيومهِم والعام.
وصل برج إيفل الذى لم يكن بعيداً عن فندقهِ، وعلى نجيلةِ البرج
كان بائعو الورودِ، وعازفو الشوارع على الأرصفةِ يعرضون حدائقهم،
وحوار النغم للعاشقين.. جال بناظريهِ يبحثُ عنها، حتى لمحها من
بعيدٍ تجلسُ على العشب أرضاً وتُلوح لهُ بكفِها.
تقدم نحوها، وقفت واستقبلتهُ بحرارةٍ مُصافحةٍ.. ثم جلسا أرضاً على
العشب الأخضر الذى يظهر كسجادٍ فارسى فخم.. افتتحت ميشيل
الجلسة فقالت له ووهى تلملم شعرها الاشقر الذى يبدو كالمساء
المدلوق.. على دربِ الغجر السائرين بين الحشائش فى أعالى النيل:
.« ؟ حسناً، كيف وجدتَ باريس »
أجابها وهو يُحولُ نظرهُ منها إلى البرج:
.« كعادتها، تصحو وتنامُ على طاولةِ زينةِ أنثى »
تسألهُ. .« ؟ كيف تحُب القهوةَ »
فى الصيف، فى تلال إثيوبيا، وأنا أرى وأشمُ رائحةَ البُن الحبشى » 88
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
على أيدى الأرومِيات، وهنّ يُحمصنهُ فوق فُحيماتٍ على منقدٍ من
.« فُخار
هكذا، أجابها وهو ينظر فى عينيها الزرقاوين، قبل أن تسأله مجدداً
وهى تُعدل فى جلستها:
.« ؟ قل لى، لماذا تحُبُ القهوةَ »
ابتسم، ثم قال لها:
.« لأن لونهَا يشبهُ لونى، ولونَ طمى النيلِ فى الخريف يا ميشيل »
سألتهُ مُتعجبةً. .« ؟ وما الطمى »
أجابها وهو يرنو إلى بعيدٍ:
هو عطاءُ النيلِ للضفافِ، ولصغارِ سمك الّبُلطى والقرقُور.. أنتم »
هنا لا تعرفونهُ يا ميشيل، لأن السين يعانقُ البناياتِ الأسمنتيةَ العالية،
ونيلُنا يُصافحُ شجرَ العرديبِ، ومراكبَ قبيلةِ الدينكا.. هزيجَ الأغانى
.« والحقولَ الراكضة صوب المدى عليها حيواناتنا الأليفة ترعﯩ
ابتسمت ببشاشة، ثم قالت لهُ مُغتطبةً:
أتعرف! تمنيتُ إن كان لى كُوخٌ هناك، حتماً لصادقتُ الحقولَ »
وحيواناتكم الأليفة تلك، فإن أُلقى التحية صباحاً على صيادٍ فوق ظهرِ
مَركب، هذا أروعُ وأكثرُ إمتاعاً عندى من أضواءِ جميعِ مُدن الأسمنتِ
!.« وصخبِ التكنولوجيا
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
89
أومأ لها برأسهِ تفهماً، ثم تقاسما القهوةَ تحت ظلالِ البُنِ الفرنسى،
وتمشيا على النجيلة الخضراء حول البرج وهم يتكلمان ويضحكان.
كانت ميشيل ذكيةً وعذبةَ الابتسامةِ، تضحك مَلء شدقيها إذ ما
طرقَ المجنونُ أذنَها بطرفة، تتحدث بلباقةٍ تُتاخم الهمسَ عن النظريةِ
الأدبيةِ الحديثةِ، وحزنِها البليغ عن الذى يحدث فى الشرق الأوسط.
تتكلم بحماسٍ عن أُسسِ الإنسانِ الجديد، وتلومُ نفسها بشدةٍ عن
تأخْرها في السفر للعملِ كمتطوعةٍ فى مُعسكرات اللاجئين فى
إفريقيا.
كان الرجلُ المجنون يستمعُ إليها باهتمامٍ ويداخلها أحياناً ببعضِ
التعاليقِ الخفيفةِ.. سمعا فجأةً جلبةً خفيفةً حولَ بائعِ جرائد المساءِ
الُمتجولِ.. سألها عن سببِ كل هذه الزحمةِ التى تحيطُ بهِ.
تقول ميشيل ثم تضيف: .« ! ألم تسمعْ »
هناك بعضُ الإشاعاتِ فى باريس، أن شخصاً مجهولا قد ظهر »
فى متحفِ اللوفر قبل يومين، وقال كلاماً غريباً عن مفهومِ التاريخ
ثم سألتهُ فجأةً كمن استدرك شيئاً: .« والقيمةِ والإنسانِ
.« ؟ بالمناسبةِ، ماذا تعتقدُ بشأنِ القيمةِ »
ابتسم المجنون ابتسامةَ لم تعرِف ميشيل معناها إلا فيما بعد، ثم
قال لها:
90
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
القيمةُ ببساطةٍ يا آنستى، هى أن هذا البرجَ الذى يجلسُ كالشامةِ »
على خدِ باريس، لن يَحظى بجمالِ هندستهِ هذه، إن لم يكن يُشكل
خلفيةً لعاشقين يبتسمان أمامهُ ويأخذان الصورَ للذكريات.
تلك الصورُ التى سيُشاهدانها بعد أعوامٍ وأعوامٍ، لتمنحَ غدهما معنى
.« الأمس الذى ضحكا فيه مساحةَ الفرحِ ما تكلم
ثم وقفَ لوهلةٍ، وسألها:
.« !؟ ولكن، ما هى قيمةُ القيمةِ ذاتها »
أمعنت فيه ميشيل بإعجابٍ فاغرةً فاهها، ثم سألتهُ:
.«؟ من أنت أيها الغريبُ، ومن أين تأتى بهذا الكلام »
تقدم المجنون منها خطواتٍ، ثم صرَخ بملء صوته ناشداً قصيدةً
للشاعر الفرنسي (بول إيلوار).. تجمهرَ السُياح من مختلف الجهات
حول البرجِ مِطوقينهُ وميشيل فى دائرة..
فمثل هذه النشاطاتِ ليست غريبةً فى باريس، وخصوصاً الأماكن
السياحيةِ فيها، مثل الساحاتِ والحدائق والرموزِ.
انسحبت ميشيل إلى الخلفِ ببطءٍ وهى مندهشةٌ حد الوجومِ، حتى
استقرت فى محيطِ الدائرة مع الجمهورِ.. ابتسم المجنون مع نفسه
نصف ابتسامة، ثم صاح فى الجميعِ قائلاً:
هل تَعرِفون يا سادتى أن القديس فلانتاين لم يكن رومانسياً بما » صرخ
المجنون 􀀷 هكذا..
91
يكفى ليكتب قصيدةَ حب.. وربما لهذا لم تحبهُ بنتُ السجان!.
ولكن هى الأسطرةُ لإصباغِ المعنى/التاريخ وإن اختلفتْ الرواياتُ..
فليس هناك قصةٌ حبٍ مُميزةٍ، وأخرى ليست كذلك.
بل هناك قصةٌ حبٍ وجدتْ من يؤرخ لها وأخرى ليست كذلك، لأن
أيَّ علاقةِ حبٍ هى خاصةٌ ومميزةٌ لطرفيها، ولهذا سميت (حُبّ).
وبذا لا يكون هناك فرق بين ما تمخضت عنه مخيلة شكسبير فى
علاقة الحب فى روميو وجوليت، وبين راعى غنم يسكنُ الآن فى
قريةٍ منسية تنامُ على حضن النيلِ ليلاً، وتصحو على آذان الديك فى
الصباحِ، ويحبُ جارتَه سعاد.
راعٍ لا يعرِف العالمَ كما شاءت به المدرسةُ، بل يعرِفهُ كما قال
له جدَّه، وصداقةُ كلبهِ السَلُوقى الأليف، وصوتُ الناى فى الفيافى
.« البعيدةِ، وحبهُ لسعاد
قاطعهُ شابٌ يبدو مُهتماً بالأدب الإنجليزى:
ولكن مهلاً!، ما الذى يجعلنا نعرِف روميو وجوليت، ولا نعلمُ »
.« ؟ شيئاً عن ذلك الراعى وحبِه لسعاد
أجابهُ المجنون، ثم واصلَ: .« ! عبقرية شكسبير »
شكسبير هو من صنعَ من الأولى أسطورةً، وصُدفة الجغرافية، »
وسِجية الأشياء ما جعلا من الأخرى عدم.. ما قالهُ روميو لجوليت لم
92
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
يكن أعظمَ من راعينا عندما يصدح بالدُوبِيت( 2) فى جدائلِ سُعاد
الطويلةِ، وضحكتها حين تراهُ بين شهقاتِ الحصيرِ.
لأن البرجوازيَة فى شكسبير/النص، لن تمنحَ أبطالَهُ قيمةً عاطفيةً
أعمق يا سادتى لو استوعبنا المقاربةَ، لأن ذاكرةَ الراعى ليست أقلَ
اكتنازاً بأى حالٍ، من خشبةِ المسرحِ وكل احتقانِ المشاهدِ بين
.« الفصول
قال مصورٌ فتوغرافى يحملُ كاميرا:
لربما كان المسرحُ حضورُه فى الألوان يا رجل، فهى التى تحُدث »
.« الفرقَ، ولولاها ما كان فلانتاين اختارَ البنفسجَ جيتاراً يغنيه الحبَ
اللونُ هو ضحيةُ الضوء يا شاب ( يجيبهُ المجنون)، والكاميرا هى »
أداة تحنيطِ اللحظةِ الزمنيةِ فى جمودِ مشهدٍ.
فلا تثقَ فى الأبيضِ، لأنهُ لونُ العدمِ واللا شىء، وللأسودِ دوماً حضورٌ
مُتعالٍ. مانحا القضاةَ هيبتةً، والمتراوح رقصاً بين الظلالِ وظلالها.
وهو الليلُ أيضاً، انسكابُ مِحِبرة ملاكٍ يُجيدُ الرسمَ على لوحِ الوقتِ
.« وكتابة الكواكب
صاحتْ فتاةً جميلةً برفقةِ شابٍ من بعيدٍ:
.« ؟ وماذا عن الحبِ »
2) *الدُوبِيت، ضرب شعري غنائي اشتُهر به سكانُ المناطقِ الرعويةِ في السودان، وله أسماءٌ أُخرى في العالم )
العربي مثل الزجلِ والمواليا.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
93
ابتسم المجنونُ، وقال لها:
الحبُ هو أنانا الجميلُ الذى نبحث عنهُ وذاك العبقُ، تذاكرُ »
الرحيلِ والأحلامُ اليافعات.. كما أنه الرغبةُ القصوى للتملُك، ومتعتهُ
تكَمُن فى ألمهِ، وهذا يُحِيلُ إلى رغبتنا الدفينةِ فى تعذيب ذواتنا.
هى المازوشية إذاً يا سيدتى فى أقصى تجلياتها اللا واعية!.
النقيضُ فيهِ يمنحنا اللذةَ، تماماً كما كان لقهوة الصباحِ لطيفُ مرارةِ
.« البُن حين تفتحَ ستائرَ نافذةِ المزاج
ثم نظر المجنون إلى حبيبها الذى يقفُ قربَها، وقال له:
لكى تكتب كتاباً جميلاً أو حتى قصيدةً، أنت لا تحتاج إلى فنجانِ »
قهوةٍ أو مكتبةٍ كمكتبةِ برلين، بل تحتاج يا صديقى إلى حبيبةٍ كماها،
تجُيدُ تراتيب الصباحاتِ لك، وتعتصرُ المساءَ ذاكرةً مستفةً بالتفاصيلِ
.« وجميل حُلُمٍ سيأتى
أفلتت الفتاةُ يدَها من كف حبيبها، ثم ركضت صوبَ بائعِ الزهور
وأخذت باقةً من زهرةِ الغاردينيا ومدتها لهُ قائلة:
.« Merci!»
شاطرها الابتسامَ وأخذها منها شاكراً.. صفق الجميعُ فرفعَ لهم يدَه
مُحيياً وهو يغادرُ الدائرة.
بعد عِدة خُطواتٍ؛ لحقت به ميشيل التى كانت مغسولةً فى طست
94
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
دهشتها.. سارا سوياً صوبَ حدائق (شان دى مارس) بجوار البرج.
كان الليلُ قد بدأ يسدل جفونَهُ بِنُعاس أنثى، ونزل هدب الوقت،
ذاك المُتراوحِ بين كُحل الليل الأسود وظلالِ رمشِ المساء الذهبى
الأخير.. وقفت ميشيل فجأةً وأوقفتهُ من ساعده، ثم سألتهُ وهى تكِزّ
على أسنانِها:
.« ! من أنت أيها الغريبُ، أجبنى »
أمعنَ النظرَ فى عينيها لفترةٍ، ثم قال لها وهو يُواصل طريقه إلى
داخل المنتزه:
.« أنا مُوزعٌ بين الاحتمالات عنى يا ميشيل »
قالت له وهى تلحقه من الخلفِ مُسرعةً:
ولكن الاحتمالَ هو تساوى فرصِ الأحداثِ فى الوقوع.. فما »
.«؟ هويتك
أجابها وهو يجلسُ على مُرجيحةٍ من تلك تكون فى مثل المتنزهات
فى باريس:
أنا مزيجُ دماءٍ تجاوزت الأصالةَ فينى، ونُقِى العِرق للتعدد.. »
فى المسافةِ بين جرف النيل الصوفى الأخضر والصحراء ولدتُ. عند
الناصية الشرقية من إفريقيا، والجزء الشمالى من خط الاستواء.
لا اسم لى، لا عمر لى ولستُ محدودَ الهوية..
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
95
.« ساعدى أسمرٌ وأحبُ الحقلَ ورائحةَ التراب
جلست بجوارهِ، ثم ضمت كلتا كفيها أمامها.. ولفحتهُ بابتسامةٍ
لطيفةٍ وهى تقول لهُ:
.« جميلٌ أنت هكذا، بكلِ الاحتمالات فيك »
ابتسم لها ثم نظرَ إلى ساعته وقالِ:
.« الوقتُ هو عدو اللحظات »
قالت لهُ دون أن تُفكر:
ولو كانت الأرضُ أكثرَ عدلاً، حتماً لتوقفتْ كُرتُها عن الدورانِ الآن »
.« وتلاشى الوقتُ
وقف المجنون، ووقفت ميشيل معهُ قبل أن تسألهُ:
.« !؟ متى سنلتقى »
ثم استدركتْ فجأة رحلتهِ غداً إلى الولايات المتحدة، فأعادتْ
صياغةَ السؤال:
.« ؟ أعنى، متى ستزور باريس ثانيةً »
.« لا أعرف!، ولكن أعرف ما الذى سيحدثُ لو أنكِ كنتِ حبيبتى »
ابتسمتْ كمن انتظرَ شيئاً، وسألتهُ باهتمامٍ:
.« ؟ ما الذى كان سيحدثُ لو كنتُ حبيبتَك »
أجابها وهو ينظرُ فى عينيها الزرقاوين:
96
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
كنتُ سأصنعُ معكِ الاختلافَ يا ميشيل، وسأحكى لكِ الكثيرَ عن »
إفريقيا، وطفولتى مع عصافير العكِ الزرقاء، وسأصطحبُكِ إلى وطنى
البعيد لترى أناساً أحبهم، وستتعرفين على أمى الطيبةِ، وترينها وهى
تفردُ بشىء يُسمى القرقريبة( 3) عجين الكسرةِ فوق الصاج وسيعجبكِ
ذلك.
سأكلمكِ عن قبيلةٍ عندنا فى الجنوب، يدفعون أبقاراً أكثرَ كمهرٍ
فى الزواج كلما طال قوام الفتاة، وأعلم أنكِ ستضحكين مَلء المتعةِ
وستحبينهم..
وسنجلسُ قربَ النيل فى قريتى عند المساء، وستشاهدين النساءَ
يغسلنّ هدومهنّ فى الضفةِ الأخرى.
ثم ستذهبين برفقتى إلى حفل زواجٍ فى المنطقة الشماليةِ،
وستشاهدين نساءَ الشايقية يرقصنّ ويُقدلنّ كإناث الحمام على تنفسِ
.« وترِ الطنبور
رفعت حاجبيها، وقالت بتلقائية:
.« Oh, this is amazing!..»
قال لها بعد شىء من الصمت:
ولكن هذا لم يكن يا ميشيل، فقد كانت الصدفةَ أقسى من أن »
3) القرقريبة، شريحةٌ نباتيةٌ على شكل (صفحة) من سعف النخيل، وتستخدم في صنع الخبز المحلي (عواسة )
الكسرة).
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
97
.« تجمعنا قبل الآن
قالت لهُ بشجنٍ وهى تُغادر، وتُهزُ رأسها تفهماً:
.« I know that, it would have been wonderful »
ثم توقفت فى نصف الطريق فجأة، وسألتهُ بصوتٍ عالٍ:
.« ؟ بالمناسبة، كيف كان سيبدو طفلنا »
وقف الرجل المجنون فى مكانهِ.. التفت نحوها مُبتسماً ولم يُجيب.
فشاطرتهُ الابتسامَ وغادرت..
تاركة لمخيلتهما مساحةَ التأويل.!
98
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
99
واشنطن، الشارع الثالثُ والخمسون، مبنى كومفورت، الساعة الحادية
عشرة صباحاً. تم طرق باب شقتى بعنف:
.«This is the F.B.I, open the door sir..!»
يصيحُ صوت بالخارج. ثم يتكرر الطرق بقوةٍ أكثر، والنداء:
.« Open the door sir..»
ذهبتُ مُفزوعاً صوب الباب، وقبل أن أفتحهُ تم كسرهُ، ودخلت قوة
مُدججة بكل أنواع السلاح الحديث، انتشر جنودُ المداهمةِ السريعة
ذوو الزى الزيتي فى الشقة بالكامل..
صرخ الضابط ذو البدلة المدنية فى وجهى، وهو يوجه مُسدسهُ نحوى
بحذر:
.«Don’t move sir ! »
رفعتُ كفىّ ببطء، وجلستُ على ركبتىّ مذهولاً.. قام جندى بلويهما
فصل الولايات المتحدة
100
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
على ظهرى، ووضع عليهما الكلبشات الحديدية بسرعة.. وتم اعتقالي!.
خارج المبنى؛ كان هناك العشرات من سياراتِ البوليس، وعربات
أخرى سوداء غامضة يرتدى أصحابها بدلات أنيقة وينظرون إلى بازدراء.
أدخلنى الجنديان بعُنفٍ بالبوابةِ الخلفية فى سيارةٍ طويلةٍ وعاليةٍ،
جلسا يواجهانى فى المقعد الآخر ويرمُقاننى بنظراتِ تحدٍ.
يقودانى إلى الحجزِ الانفرادى، يتركانى فيه لمدة ساعتين قبل أن يأتى
.!F.B.I آخران ويأخذانى إلى مكتبِ التحقيقِ السرى الخاص بال
حول طاولةٍ مُستطيلة فى غرفة التحقيق البيضاء الكبيرة، يجلسانى
على كرسى خشبى يقابلهُ مقعدان آخران، ثم يتركانى فيها وحدى
ويغادران.
كانت غرفةُ التحقيقِ خاليةً سوى من جهاز تلفاز كبير فى الزاوية التى
توُاجهُنى، ومرآةٍ ضخمةٍ مُستطيلةٍ على الحائط، أعلم أنهم يُشاهدوننى
من خلالها كما أعرِف ذلك من الأفلام التى شاهدتها.
.« ؟ ما الذى يَجرى هنا بحق الجحيمِ »
صرختُ فيهما سائلاً وهما يغادران.. لم يُجيبانى سوى بصوتِ الباب
المصفُوقِ خلفهما.. جلستُ دافناً رأسى بين كفىّ، وأنا أحاولُ أن أسترجعَ
كلَّ تاريخ إقامتى فى الولاياتِ المتحدة، وعن الذى يمكن أن أكونَ قد
فعلتُهُ ليستحقَ كلَّ هذا.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
101
.« ! لا لا لم أفعلْ شيئاً »
أقولُ لنفسى وأضربُ الطاولةَ بيدي.. أقفُ وأتجولُ حولها، أجلسُ من
جديد. أنظر ناحية المرآة التى على الحائط:
.« !؟ هل من أحدٍ هنا ليخبرنى ما الذى يجرى »
أصرخُ فيهم، وأنتظر لنصفِ ساعةٍ كاملة، حتى يدخلَ علىّ بعدها
رجلٌ طويلٌ يرتدى بدلةً سوداء، وبرفقتهِ ضابطةٌ ببزة عسكريةٍ أنيقة..
وقفا جوارى، وقال الرجلُ بهدوءٍ:
.« مرحباً!، أنا المُحقق وليام جميس، وهذه مساعدتى جيسكا »
.« ؟ لماذا أنا هنا »
سألتهُ بصوتٍ حادٍ، وطالبتُ بشرحٍ لكل هذا وأنا أنظرُ فى عينيه
الخضراوين.. نظرا إلىّ لمدة، ثم أخرج رُزمة صورٍ من الظرفِ الذى
يحملهُ فى يدهِ، ورماها أمامى على الطاولة، انحنى واضعاً كفيه عليها،
ومال علىّ قليلاً كمن يُحدثنى فى أُذنى قائلاً:
.« How is this man?.. »
سألنى وهو يُشيُر إلى الصورِ بعينيهِ، أمعنتُ النظرَ إلى الصورِ فكان
ذلك هو الرجلَ المجنون!. نعم هو نفسهُ الذى كان فى الصورِ!.
أجبتهُ بسرعة. .« He is the crazy man »
نظر المحققُ للضابطةِ التى تجلسُ قبالتى، وسألنى مُجدداً بذات
102
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
الهدوء:
.« who is the crazy man? »
أجبتهُ:
.« ! لا أعرف من يكون، وربما لا أحدَ إطلاقاً يعرِف »
أردفتُ سائلاً وأنا أحوّلُ نظرى بين وجههِ المُتشككِ، ووجهِ الضابطةِ
المُتفحِص:
.« ؟ ولكن، ما الذى حدثَ »
حدّق فى عينى.. ثم تناولَ الريموت كنترول من الطاولة، ووجههُ إلى
التلفاز الضخمِ فى زاويةِ الغرفةِ، واشتغل الفيديو.
كان اجتماعاً للكونغرس الأمريكى فى مبنى (الكابيتول) فى واشنطن.
وفى أثناء حديثِ أحدِ السينتورات عن تعديلِ بعضِ القوانين فى
الدستورِ، والسياساتِ المتعلقةِ بالسياسةِ الخارجيةِ..
فُتح بابُ القاعةِ الضخمُ فجأةً، ودخل الرجلُ المجنون نفسهُ بصحبةِ
مُخلاتهِ الحقيبةِ تلك.
لا أحدَ يعلمُ من أين جاء، وكيف دخلَ إلى قاعةِ الاجتماعات، تقدم
بخطواتٍ ثابتةٍ صوبَ المنصةِ الرئيسية دون أن يثيرَ ذلك عناصرَ الحماية
أو الحرسَ الخاص، وكأنهم لم يروه!، أو كأنهُ كان شبحاً لم تستطعْ
كاميراتهم الحديثةُ التقاطَ ذبذباتهِ حين دخولهِ.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
103
استأذن من السينتورِ المُتحدث الذى نهض مفزوعاً، جلس مكانَهُ غير
آبهٍ لدهشةِ وحيرة الجميع، وضعَ مُخلاتهُ الحقيبةَ أمامهُ، ثم قال لهم
بإنجليزية مضبوطةٍ، ونطقٍ مذهلٍ وهو يُعدِّلُ من أكمامهِ:
هل تعرفون أيها السادة الأنيقون ما الفرقُ بين الإنسانِ والغزالِ؟! »

نظر السينتورات إلى بعضهم متعجبين، نظرَ بعضُهم إلى الحرسِ
المُسمر مكانَهُ، وكأنه لا يرى الذى يحدث.. دار تبادلُ أطرافِ حديثٍ
بين كل اثنين تتجاور مقاعدُهما.
مال المجنون على المايكرفون الصغير، ثم قال وهو يعدلهُ قبالتهُ:
.« !. لا فرق البتة »
توقف السينتورات عن مهامساتهم، ونظروا إليه مشدوهين.
لا فرق البتّةَ! سوى أن الغزالَ أكثرُ سلاماً من الإنسان، إذا تعلقُ »
الأمرُ بمعايير السلامِ، وتجاوزنا وهمنا فى ذواتنا للحظة، وتذكرنا فواجعَ
يقول المجنون، ثم يُواصل غير أبهٍ لتعجبهم: .« التاريخ
الإنسانُ ياسادتى بقدر عظمتهِ، هو قاذورة الانتخاب الطبيعى »
بشكلٍ آخر. لأنهُ هو الفصيلُ الوحيدُ على هذا الكوكب الذى يستعبد
بنى جنسهِ. ويقوم بإبادات جماعيةٍ لأبناء جلدتهِ ويُهددُ الحياة.!
كل هذه الحياةِ الرائعةِ فوق هذا الكوكب الأخضر الصغير يُهددها،
104
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
إن فقط أعلن مجلسَكم هذا قيامَ حربٍ نووية ثالثةٍ بين مُعسكرين أنتم
أحدُ أقطابها، بل أنتم القُطبُ الأخطرُ ومُرجحُ الاحتمال لهذا.
لأن مُحرِكَكم مرضٌ فتَّاك أصابَكم قبل مئات السنين، فى غرب أوروبا
وقُرب السواحل، جشعُ رأسِ المال يا سادتى وعباراتُ آدم سميث قتلت
أبناءكم المُغيبين بسوق الاستهلاك. كما قتلت جوعاً أطفالَ بلادٍ أنتم
اعتبرتُم أهلها مجرد سوق!.
فزيفاً، أنتم تحاولون معالجةَ أخطاءَ تاريخٍ صنعتموه قبلَ ستةِ قرونٍ
من الآن، لأنكم تعُيدُون ذات التاريخِ وإنتاج اللعنةِ لذاك المرضِ، وإن
اختلفت الأدواتُ بشكلٍ يناسبُ خللَ رأسِ المال أكثر!، فلستم عظماءَ
.« كما تدعون ذواتكم، ولم تكونوا إلى الآن كذاك
أوقف المُحققُ جهازَ الفيديو وهلهً، ثم رمانى بنظرة حادة وقال لى:
فتحهُ من جديدٍ، فظهرَ المجنون مُواصلاَ: .« .. اسمع.. اسمع »
إن ملامحَ وجوه الهنودِ الحمر الذين أبدتموهم، ستلاحقكم »
أشباحها أينما ذهبتم، وستظلُ وصمةَ عارٍ فى جبينكم الذى لا يشبه
جبينَ المزارعين فى فيتنام، وفى روابط عُنقِكم الأنيقةِ التى لن تفهم
أبداً ذاكرةَ حبلِ الدلوِ فى يدِ طفلةٍ تنشلُ ماءً، من بئرِ بيتهم الريفى، فى
.« قريةٍ صغيرةٍ فى العراق
ينهض أحدُ السينتورات من الحزب الجمهورى صارخاً:
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
105
.« who are you .. !?»
يتطلع فيهِ المجنون، ثم يجيبهُ:
أنا المنفذُ بين السيخِ فى نوافذَ زنزاناتكم الصغيرةِ المُكتظةِ »
بموقوفي الجرائم.. الذين خلقهم تناقضُ هذا النظامِ.
أنا عرَقُ العاملين فى مصانعكم الضخمةِ، الذين يُداومون ست عشرة
ساعة فى اليوم ليدفعوا لكم الفواتير.. فهل عرَفتم من أنا يا أيها السادة؟.
( أنا صوتُ قبائل (الشيروكى) و (الشوكتو)، أطفال (الشيسكومسو)( 1
أنا، فهل تذكرونهم؟.
كانت لدى الهنود الحُمر حضارةٌ من همس الطبيعة، وسرٌ العلاقةِ بين
عُشبِ الغزالِ وهسيس المطر، يبنون عالمَهم بجوار النهرِ ويصنعون
حِكمهم التى استسقوها من الطبيعةِ والحياة.
جئتموهم ومعكم الموت لا التعمير، معكم الطاعون قد جئتموهم،
أرواحهم تحلق هناك يا شفنغنتون( 2). فوق مكانٍ كان لهم حقلاً وأنتم
أقمتم فيه ناطحة سحاب..
فهل ما زلتم تُريدون أن تعرِفوا من أنا يا سادتى؟.
أنا صليلُ سلاسلِ العبيدِ المقيدين فى السفنِ الهولندية قبل أن تنزلَ
1) قبائل الهنود الحمر تمت إبادتهم من قِبل الإنسان الأبيض فى أمريكا. )
2) جون شفنغنتون وهو من أعظم أبطالِ التاريخ الأمريكي وهناك الآن أكثر من مدينةٍ وموقعٍ تاريخي تخليداً )
اقتلوا الهنودَ واسلخوا جلودَهم، لا تتركوا صغيراً أو كبيراً ، فالقملُ لا يفقس إلا من بيوض » لذكره ولشعاره الشهير
.« القملِ
106
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
..« مرساتها فى مينا فرجينيا
صمت المجنون فترةً قبل أن يُواصلَ فى هدوءٍ:
 سُفن العبيدِ يا أوباما، وجدُّك الإفريقى الأسود (كونتا كينتى) هل
تذكرهُ ؟. تلك السفنُ التى قطعتْ صدرَ البحر تلعنها الرياحُ، مُعبئةُ
بالزكامِ، والجرزان كانت، وأجدادُك الطيبون.
هى السبب وراء كل ذلك!.
هى السبب فى أن أبناءَ جلدتك لا يزالون فى هذا البلدِ يعانون، لأنهم
مُخلفاتُ رقٍ، وأنهم فى لا وعى من يساكنونهم لا يزالون دُون.
لم يجيئوا بمنحٍ دراسيةٍ كتلك التى تمنحُها جامعاتُكم الآن لذوى
المال، بل جاءوا وهم يرفلون فى الأغلالِ!.
لونُهم كان ضدَّهم.. كما كاد أن يكون ضدك فى الانتخاباتِ.
عار التاريخ إذاً، ودعاية العدالة الاجتماعية على الورقِ.
ناطحاتُ السحابِ والتكنولوجيا لن تمسحَ دماءَ تاريخٍ مقززٍ قد
.« فعلتموه. وآخر الآن تفعلونهُ باسمِ التحضرِ والسلام
ثم صاح المجنون فيهم:
 فعن أى سلامٍ تتحدثون إذاَ، وأنتم بذلك قتلةٌ!..
عن أى حقوقٍ تتكلمون، وأنتم مغتصبو الحقوقِ جميعها وبائعو
الأوهامِ؟.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
107
.« ! فلتتوقفوا عن هذا النفاقِ إذاً، ولتُمعنوا فى المرآة أكثرَ
دار لغطٌ وجلبةٌ بين السينتورات وتعالت الأصواتُ.. الأمر الذى جعلَ
الحرس الخاصَ ينتبه فجأةً للرجل المجنون، وكأن غشية قد زالت عن
أعينهم.
بدأوا يتحدثون بتلك السماعاتِ الصغيرة التى يعلقونها فوق آذانهم،
ويتحركون صوبَ المجنون مشهرين أسلحتَهم:
.«Sit down, or we gana shoot you!. »
يصرخون فيه من بعيد وهم يطوقونهُ، نهض المجنون من مكانهِ
بهدوءٍ رافعاً كفيه إلى أعلى ببطء، ثم فجأة أدخلَ يديه فى حقيبتهِ
المُخلاةِ بسرعةٍ، وأخرجَ منها عشراتِ الصورِ ورماها فى الهواء لتنتشرَ
مُحدثةً ضباباً ورقياً فى فضاء القاعةِ حجب الرؤيةَ للحظةٍ.
تساقطت أمام السينتوراتِ والحراس، وحين انقشعتْ لم يكن المجنون
هناك. أما الصورُ فقد كانت رسومات الفنان الفلسطينى (ناجى العلى)
.(3)
.« ؟ من هو الرجل المجنون، وماذا يُريد »
يسألنى المُحقق بانفعال، بعد مشاهدة الفيديو، وهو ينظر فى عينىّ
3) ناجي سليم حسين العلي ( 1937  1987 م)، رسام كاريكاتير فلسطينى، من أهم الفنانين الفلسطينيين )
الذين عملوا على ريادة التغيير السياسى باستخدام الفن كأحد أساليب التكثيف، اغتيل فى لندن من قبل الموساد
الإسرائيلى عام 1987 م.
108
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
بحنق.
أجيب. .«! لا أعرف »
سألنى مجدداً وكأن إجابتى لم تعْنه:
.« ؟ أين كان يعيش »
.« ! فى الغابة »
.« ؟ أىُّ غابة »
لا أعرفُ!، ولكنى سمعتُ بأن لهُ مغارةً فى إحدى الغابات فى »
.« إفريقيا
نهضت الضابطةُ من مكانها، تقول بهدوء وهى تشبُك راحتى كفيها:
بعد أن جمعنا كل الذى قاله فى السودان وفى باريس، ووضعنا »
مقولاتهِ تحت الدرساتِ الاجتماعيةِ والنفسيةِ لم نميز إن كان سياسياً
.« حانقاً أم فيلسوفاً جديدا يهدف إلى تبديلِ حياتنا
قلتُ لها وأنا أرفع يدى مُحتجاً:
.« ..!. ولكنْ »
قاطعنى المُحققُ وهو يشيرُ بإصبعهِ أمامهُ كمن تذكَّر شيئاً:
ولكن، أيضاً نريدُ أن نعرفَ بأىِّ شىءٍ استطاعَ تخديرَ الحرسِ؟، إذ »
.« ! إننا لم نجدْ أنهم تعاطوا أى شيء بعد إخضاعِهم للتحليلِ
وقبلَ أن أجيبَ، دخلَ أحدُ الجنودِ مُسرعاً وقال للمُحقِّق إنهم وجدوا
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
109
رجلاً قد شاهدهُ فى الطريقِ السريعِ صباحَ اليوم..
طلب منهُ أن يأتى بهِ فى الحال. دخل رجلٌ أربعينى ذو عينين
واسعتين، وقفَ أمام المُحقق وقال لهُ:
.« I saw him!..»
.« ؟ أين رأيتهُ بالتحديدِ »
كان مُتمدداً فى نصفِ الطريقِ السريع بين فرجينيا و فيلادلفيا، مما »
أدى إلى تعطيلِ حركةِ المرور، اعتلى إحدى السيارات، وصاحَ فى جميع
.« الذين ترجلوا من عرباتهم بكلامهِ العجيب ذاك
ثم فتحَ الرجلُ كاميرا هاتفهِ ووجهها قبالتى والمُحققِ.. كان ذلك هو
فعلاً الرجلَ المجنون فوق سيارة جِيب عاليةً مُخاطباً الجميع:
هذه الطرقاتُ التى تسيرُ عليها مركباتُكم الفخمةُ يا سادة، مسفلتةٌ »
بزيت بترولٍ هو بقايا أجدادٍ، وحيوانات أُناسٍ طيبين وراء البِحار.. بلادٌ
.« أُناسٍ خطفتهم الخرافةُ كما خطفتكم أنتم أسواقُ الاستهلاكِ
قال رجلٌ بدينٌ يحملُ قارورةَ مشروبٍ غازى فى يدهِ:
.« تنحى عن الطريقِ، تُعجبنا حياتُنا ولا حوجةَ لنا بمحاضراتك »
قال آخر:
.« ؟ أنت تقول الحقيقةَ أيها الغريب، فاشرحْ لنا »
بمعرفة أن هذه القرورة التى يحملُها هذا المُستعجل الآن فى » 110
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
.« يدهِ، قد اشتراها عن طريق الدعايةِ لها وليس فقط بتفضيلِ طعمٍ
يُجيبُ المجنون، ثم يُواصل:
لأن التفضيلَ مجرد وَهمٍ مسقوفٍ بالمُتاح فى إطار معرفةِ الفرد، »
وإن تكرارَ مشهدٍ لدعاية شركة الهواتف أو السيريال فى الشوارع مثلاً
يُولد مُيولاً غير واعِيةً لها.
إذ إنه التدجينُ والتلقينُ، وإدارةُ الإدراكِ فى علم نفس السلوك،
صدارةُ الانطباع هو واستحسان الموهوم.
وبهذا يمكن أن تفهموا أن وضعَ صورةِ فتاةٍ عاريةٍ فى الغلاف الورقى
لصابون الحمام، وصورةِ الرئيس على سياج البيت الأبيض، لهما ذات
.« ! القيمةِ وإن اختلفَ الهدفُ رغم تكاملِه
أوقفَ السائقُ كاميرا جهازِه الجوال، وقال للمُحقق:
لم يفهمْ الناسُ ما قالهُ يا سيدى، وعندما استفسرتْ منهُ فتاةٌ عن »
..« كيف يمكن أن يكون ذلك.. انظر بماذا أجابها
ثم فتح هاتفهُ من جديد، ليطل المجنون مُوضحاً:
إن الصورةَ الأولى التى بها فتاةٌ عاريةٌ هى مقصودةٌ، لاقترانِ الإثارةِ »
بين الصورةِ والسلعةِ (صابونة الحمام) هنا. أما فيما يتعلق بظهور صورةِ
الرئيسِ على سياج البيت الأبيض، هى بمثابة تجسيدٍ للهويةِ الوطنيةِ فى
انطباعِ الشخص الُمُشاهد.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
111
بذات الكيفيةِ التى أراد بها متملقوه أن يكونَ لابتسامتهِ المصطنعةِ
تلك دليلُ لُطف.. تماماً كما الثلجُ المُصاحِب في صورةِ البيبسى لم
يُوضع عبثاً، بل ليجعلَك تظنُ أنه الخيارُ الأفضلُ للشراب.
الصورةُ حركت الرغبةَ وكان الاستهلاك.
أنتم مُقتادو الدعايةِ إذاً يا سادتى، وضحايا الأيدلوجية.
رغباتُكم الشخصية تصنعها الشركات وأقسام التسويق، فلستم أحراراً
.« ! كما تدعون، بل انتم معبدو وَهمِ تصاميم الكمبيوتر
أغلقَ السائقَ كاميرا جهازهِ الجوال ثم قال للمُحقق:
ثم نزل الرجلُ المجنون من فوق السيارةِ يا سيدى، ودخل إلى »
.« الغابةِ التى بمحاذاة الطريقِ
ربَتَ المُحققُ على كتفهِ، ثم وقفَ قبالَة البابِ المفتوحِ وصرخ فى
العاملين:
أرسلوا قوةً ومروحيةً وابحثوا عن المجنون فى الغابة التى على »
.« الطريق السريع حالاً
ثم وضعَ يديّه فى نصفه، وأخذ يحدقُ إلى الأرض منتفخ الوجه..
يتحرك فى دائرة كمن يفكرُ ثم ضربَ حاذة الباب بيده لاعناً:
.« Dam it..! »
ويشيرُ إلى جنديين ضخمين بإصبعهِ، يأتيان ويرجعانى إلى السجن
112
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
الانفرادى. لأقضى بهِ ستةَ أيامٍ، وتحويلى بعدها إلى مقرِ رئاسة مكتب
في مبني (جي ادغار هوف) فى واشنطن. F.B.I التحقيق الفدرالى ل
وهناك؛ تم سؤالى عن كل شيء.. اسم أمى، ومراحلى التعليمية،
وظيفة أبى، وقبيلتى، عن انتمائى السياسى وعلاقتى بالرجل المجنون.
وخلف الواجهة الزجاجية لمكتب التحقيق، كان هناك العشرات من
المُحققين والضباط من ذوى الرتب العالية يدخلون ويخرجون.. الضباطُ
الصِغارُ وجنودُ الصف يُهرعون مسرعين، يتلقوّن الأوامر ويغادرون.
الآلاف من المعلومات تتحرك بسرعة على شاشات أجهزة الحواسيب
الضخمةِ المُتراصةِ داخل المبنى، أصواتُ هواتف لا تتوقف للتبليغ عن
مشاهدةِ الرجلِ المجنون فى أماكن مُختلفة فى الولايات المتحدة.
تفُيدُ مصادرنا أن هذا المجنون يستهدفُ زعزعةَ الأمن القومى.. »
.« ؟ فماذا تقول فى ذلك
يقول المُحققُ القصيرُ داخل الغرفة وهو يدورُ حول الطاولةِ التى
أجلس عيلها.
.«! لا أعرفُ شيئاً عن هذا سيدى »
أجيبُ وأنا أنظر فى عينيهِ المتشككتين.
يهمهم، ويصمت لبرهة ثم يقول: .« .. أممم »
ولكن، بعد ترجمتنا لكتاباتِك عنهُ فى الصحفِ ووسائط التواصل » صرخ
المجنون 􀀷 هكذا..
113
الاجتماعية، قرأنا أنه قال يوماً:
.« ! اللونُ هو ديباجةُ اللهِ فى الهُوية »
.« ؟ ألاّ تعتقد أن هذا يؤسس لفكرة عنصريةٍ »
يُردف كبيرُ المُحققين الجالس قُبالتى بهدوء قائلاً:
 بالمناسبة، ماذا كان يعنى حين قال:
جشعُ رأس المال، وعبارات آدم اسميث قتلت أبناءنا المُغيبين »
بسوق الاستهلاك، كما وقتلنا نحنُ جوعاً أطفالَ بلادٍ اعتبرنا أهلَها مجرد
.«؟ سوق
ثم رمقنى بنظرة حادة، وهو يُقلب قلمهُ بين أصابعهِ.
أحاول أن أجيب، فتدُخل مُهندسة المعلومات إلى المكتب.. تقول
لكبير المُحققين إنهم تلقوا اتصالات هاتفية من جهات كثيرة، تفُيدُ
بمشاهدةِ الرجل المجنون فى مُدن مختلفة فى الولايات المتحدة.
وإن رجلاً قال إنهُ لمحهُ فى فلوريدا يتمشى على شاطئ خليج
المكسيك بالأمس، كما أن فتاةً تُدعى شِيلا، قالت إنها شاهدتهُ فى صالة
الانتظار فى فندق دريم استار فى لوس أنجلوس، يتفرج على اللوحات
العالمية المُعلقة فى الصالة الكبرى للضيوف هناك.
يدخل ضابط آخر مُسرعاً أثناء حديثها، ويهمس فى أذن كبير
المحققين بصوتٍ خفيف.
114
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
يصيحُ كبير المُحققين. .«Really, when that happened?»
يجيبُ الجندى. .« Right now sir..»
نظر المُحقق إلى الضابط القصير الذى يقف قربهُ، ثم أخذ الريموت
كنترول من الطاولة، وفتح التلفازَ الضخمَ المُعلق فى زاوية الغرفة.
يبدو إنها مُذيعة فى القناة التلفزيونية الأولى فى الولاية.. فى لقاء
صباح اليوم مع الرجل المجنون الذى صادفتهُ خارجاً من إحدى المقاهى
فى واشنطن العاصمة.
تلحق بهِ منادية. .« Excuse me…Excuse me Sir …»
وقف المجنون مكانهُ، التفت نحوها مُستفسراً، فسألتهُ:
.« ؟ ماذا تقول فى حضارةِ الولايات المتحدةِ الأمريكية »
ثم مدت المايكرفون الصغيرَ صوب فمهِ:
ليست هناك حضارة تُسمى بحضارة الولايات المتحدة يا آنسة، »
بل هناك حضارة تُسمى حضارة الإنسان، والولايات المتحدة الأمريكية
.« ! تُمثل أحد نماذجها الحالية لا أكثر
بهذا أجابها، ثم عدّل حقيبتهُ المخلاة فوق كتفهِ.. وهمّ مُغادراً.
ولكن..!( تسألهُ المذيعة وهى تَلحق بهِ) هل تتفقُ مع فرانسيس »
فوكياما بأن النموذجَ الليبرالى فى الولايات المتحدة الآن هو فعلاً يمكن
.« ؟ أن يكون نهايةَ التاريخ
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
115
وقف ثانيةً، ثم قال لها مُبتسماً:
هل تعلمين يا سيدتى أن مفردة  النهاية  ذاتها هى خللٌ منهجى »
عند فوكياما نفسهُ فى التعاطى مع حركة التاريخ والقيم. بل إنهُ لم
يفهم أبداً أن اهتمام الشعب الأمريكى المبالغ فيهِ بالكلاب والقطط
هو فِعل تعويضٍ عاطفى لتناقضات هذه الحضارة نفسها، والتى اعتبرَها
.« ! هو ختاماً لصيرورة الحركةِ الاجتماعيةِ والمعرفيةِ فى التاريخ
عفواً سيدى لم أفهم ما تقصد، فهل يمكن أن توضحَ ذلك أكثر إذا »
.« ؟ تكرمت
تسألهُ الصحفية باستغرابٍ. يجيبها وهو يُمعن النظر في وجهها:
أعنى يا سيدتى أن شفتيكِ الرفيعتين، ليستا أجمل من شفاهِ الزنجى »
الأسود الضخمةِ، إلا داخل إطار التصنيف المعيارى الذى خلقهُ الرجلُ
الأبيض المُنتمى لذات الثقافةِ.
لأن مُشاط شعر (فاطمة) مثلاً فى شرق إفريقيا، لا يقل جمالاً  بأى
حال  عن تصفيف شعر المُغنيات الذى يقلدنهُ فتيات العالم المُتحضر
فى العصر الحديث، لأن (فاطمة) لا تعيش فى واقعٍ أقلِ حضارةٍ منكِ،
!«. بل فى واقعٍ مختلفٍ حضارياً عنكِ
.« ! ولكن، كيف يكون ذلك »
يُجيب المجنون، ثم يُوضح قائلاً: .« ..! حسناً » 116
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
بين المُشاط والشعر الأشقر المفرود ثمة مُعادلة، إذ لا يمكن »
(لكاثي) مثلاً أن تنسجم ومشهد أن تشحذ الطايوق( 4) من جارتها
من فوق حائط الجالوص فى ذات صباح، بيد أن ذات المشهدِ يتسقُ
و(فاطمة)، بل يمنح المُشاط بُعداً أجمل إن كانت هى من وقفتْ طالبةً
الطايوق من علي حائط الجالوص القصير لا (كاثى)!.
فلا يمكن (لكاثي) أن تكون جميلة سوى في كازينوهاتها المُموعنة
بالمعايير/ الانطباع، ولكن القهوة تُمثل بعداً شاعرياً أكثر في الراكوبة
( مع (فاطمة) فى بيتها الريفى. وهنا يمكن أن يكون للمشلعيبِ( 5
قيمةً، تفوق جمال المزهريات الأصيص على أرصفة بنما سيتى فى
فلوردا.
ولكن هى الميديا، ووَهم السيادة لديكم يا آنسة ومصلحة الفئة.
البزنسة هى القيمة المتجاوزة للآنسة والدولار هو المعيار.
السستم الاقتصادى فى تناقضاتهِ هو مَن دفعَكِ لهذا اللقاءِ معى
كصفقةٍ صحفيةٍ عائدُها أضخم، لا بحثَكِ عن الحقيقةِ وتعريةِ ما نظر له
فوكياما فى نهايةِ التاريخ!. فلا تُحرجى شفافيةَ الإعلامِ أكثرَ، لأنه سيغدو
لا فرقَ بين كفيْكِ الرقيقتين ويدِ المُلاكم محمد على كلاى.
4) الطايوق: هو نخاع العظام ، ويُوضع على الصاج مع بعض الزيت كمانع للصق الكسرة في الصاج وسهولة )
انسياب طرقتها عليه.
5) المشلعيب: أداة تصُنع من سعفِ النخيلِ في شكلٍ بيضاوي يُعلق علي سقف المطبخ، يُحفظ عليه اللبن )
والمأكولات قديماً فى السودان.
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
117
إذْ إن الهدفَ واحدٌ يغدو وإن اختلفت الصفاتُ! .
ولكنْ، يقول بعضُ المُحللين إنك شيوعى، فماذا تقولُ فى هذا »
.« ؟ الاتهامِ
الشيوعيةُ حركةٌ ثوريةٌ تُجاوز التاريخَ أدواتُها، وهذا بالضرورة لا »
.« ينسفُ مُصافحةَ عقليةِ ماركس لما قدمتهُ للمعرفةِ
أجابها المجنون، ثم واصلَ وعلى وجههِ ابتسامتهُ الساخرةُ تلك:
وهذا يعنى أن اتهامَهم لى بأنى شيوعي، يعادلهُ تماماً اتهامُ »
الشيوعيين لى بأنى ليبرالي مُتعاطفٌ، فالاتهامُ دائماً هو أسهلُ أنواعِ
.« الدفاعِ عن الذات والعجزِ يا آنسة
ثم ولى المجنون ظهرَهُ للكاميرا مُغادراً، تاركاً المذيعةَ مُغسولةً فى
ذهولِها، وتتتبعهُ بالنظراتِ حتى غابَ خَلف كشكٍ لبيعِ الجرائد فى
ناصيةِ الطريقِ!..
.« أريدُ هذا الرجلَ المجنون حالاً، ابحثوا عنهُ فى أىِّ مكانٍ »
يصرخُ كبيرُ المُحققين بتعصبٍ وهو يقفل جهازَ التلفاز، ثم يضيفُ
بصوتٍ خفيفٍ وهو يكزُّ على أسنانهِ:
.« This crazy man is gonna fucking kill me.. »
ظهرَ رجلٌ غريبٌ برفقةِ حارسين فى الصالةِ الكبرى لمبنى (جي
ادغار هوف). لوَّح بكفِّه للمحققِ من خلفِ الواجهةِ الزجاجيةِ لغرفةِ
118
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
التحقيق. خرجَ إليهم مسرعاً.. وتكلما طويلاً، ثم عاد المُحققُ بعدها
برفقتهِ.. لفحنى الغريبُ بنظرةٍ حادة، ثم عاودا طرحَ الأسئلةِ نفسها عن
الرجلِ المجنون ومن يكون.. عمرهُ ومصدرُ فلسفتهِ، وأهدافُهُ وحياتهُ
الخاصة.. سألنى الرجلُ الغريبُ:
.« ؟ كيف تُبررُ إشارتِه ل( شفنغنتون) فى الذى قالهُ بالكونغرس »
أحاول توضيحَ أنى مجردُ كاتبٍ، تعجبنى عباراتُهِ وبعضُ أفكاره، ولكنى
لا أعرفهُ شخصياً.. أنقلُ فقط الذي يقول ولا علْمَ لى البتَّة بما يفعلُ، أو
ماهى آرؤه السياسيةُ والفكريةُ..
وقبل أن يقول شيئاً دخلتْ واحدةٌ من خبيراتِ المعلوماتِ تحملُ
تقريراً فى يدها، وقالت لكبير المُحققين بصوتٍ مُتوتِر :
.« قد تلقينا هذا التقريرَ الآن سيدى.. ثم مدت لهُ الورقةَ »
.« !؟ ماذا هناك »
سألَها المُحققُ المُتعصبُ دون أن يأخذَها منها، فقالت:
إنه المجنون يا سيدى.. ظهر الآن فى مهرجانِ هوليود للسينما، »
وقال كلاماً غريباً أمام المُخرجين السينمائيين، والنقادِ الفنيين،
.« والصحفيين والكتابِ
يصرخُ فيها المُحققُ مذعوراً. ..« ؟ وماذا قال بحقِ الجحيم »
وقفَ أمام شاشةِ العرضِ أثناء مشاهدةِ الفيلمِ الحائزِ على الجائزةِ، » صرخ
المجنون 􀀷 هكذا..
119
ثم توقفَ العرضُ دون أسبابٍ فنيةٍ واضحةٍ، وقال للحضور (ثم بدأتْ
خبيرةُ المعلومات تقرأُ له من الورقةِ):
هى السينما يا هوليودُ إذاً.. »
الفنُ الأرفعُ، وأداةُ تصديرِ الأيدلوجية.
فهل تعرِفون يا سادتى ما الفرقُ بين الإنسانِ المهندسِ، وأصغرَ عاملةٍ
..« ؟ فى مملكةِ النحلِ ترقصُ بشكلٍ دائرى فى خليتها
ثم وقفَ لوهلةٍ يُمعنُ النظرَ فيهم، وهم ينظرون إلى بعضِهم
يتساءلون.
الفرقُ يا سادتى (يُجيب المجنون على نفسهِ) أن عاملةَ النحلِ لا »
تحتاجُ أن تدرسَ أربعَ سنواتٍ فى جامعةِ بيل الهندسة المعمارية لتبنى
خليتَها بهذا الشكلِ الُمدهشِ فى المقاييسِ والأبعادِ.
ولكن الإنسانَ احتاجَ ذلك، بل تجاوزَهُ فى تعددِ الأطرِ الهندسيةِ ذاتها،
والتى نحنُ الآن نوُجدُ فى إحدى عبقرياتها صرحاً على الإطلاق.
السينما هى إحدى عبقريات الإنسانِ فى قدرتِها على تشطى الحدودِ
واختزالِ العالمِ كلهُ بحركتهِ، وحيواتهِ فى ساعتين على شاشة.
.« ! إنها الابتكارُ الأجملُ على الإطلاقِ، والأكثرُ خطورةً
سأله أحدُ النقادِ. .«؟ وكيف يكون ذلك أيها المجنون »
عاملاتُ النحلِ لم يتجاوزنّ مُحيطَهُنّ الحيوى، ولم يستطعْنَ » 120
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
التجديدَ.. النمطُ الواحدُ/الهندسى المرسومُ عندهُنّ فى كروموسوم
يجيبهُ المجنون ثم يردف: ..« الوراثة هو مُحركُهنَّ لا غريزةَ الإبداعِ
بهذا يكون الأجملَ، لأن الإنسانَ هو الكائنُ الوحيدُ الذى يتحلى »
بهذه الصفةِ بين الكائنات، وهى الإبداعُ!.
وتكون الأخطرَ بأنها تشكلُ وجدانَ الشعوبِ، وتغبيش الحقائق..
تصديرُ الأيدولوجيات يا سادتى هى كارثةُ السينما العالمية الأولى هنا،
.« عندما يتأثرُ الكُتابَ والمنتجون بالخطابِ
.« ؟ وهل هناك أىَّ أسئلةِ من المُمثلين أو المخرجين »
قاطعَ كبيرُ المُحققين خبيرةَ المعلوماتِ التى تقرأُ التقرير.. قالت له
إن هناك مُداخلةً واحدةً من المخرجِ الكندى جيمس بنجامين.. سألهُ
فيها عن سرِّ رحلةِ سفينةِ القيادةِ سانتا ماريا.
سأل الرجلُ الآخرُ بصوتٍ حادٍ:
..« ؟ وما الذى قالهُ المجنونُ فى ذلك »
أجابه المجنون ( وواصلت تقرأُ التقريرَ المُفصلَ): »
إن كريستوف كولومبوس عندما جاء إلى هذه الأرضِ، لم يكن »
هدفُهُ اكتشافَ العالمِ وأناسٍ آخرين.
بل كان يبحثُ عن الذهب ليُلبى غرورَهُ والأميرة.. مُترعٌ هو حدُ
ثم فجاة صاح المجنون فيهم مُنادياً: .« الطفحِ كالإسبانِ وقتها بالخرافةِ
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
121
اصرخوا بالحقيقةِ يا سادتى على شاشات السينما، وقولوا لهذا »
الشعبِ المُغيبِ بالاستهلاكِ إن فى ذات اللحظةِ التى يُداعبُ فيها
الكلابَ، هناك طفلٌ بين غاباتِ السنطِ، ونداء الملاجئ يفتقدُ لبنَ
المساء!.
ناهضوا الحروبَ نصوصاً، ولا تأخذوا من جغرافياتها النائمة على حلمِ
السلامِ موضوعاً لفيلم عنفٍ جديدٍ.
لأن أفلامَ الأكشن التى تنتجونها هى بزنسةٌ للفنِ وتفريغِ مُحتوى. كما
أن أفلامَ الرعبِ تُحيلُ إلى أن لا يزال فى عقولِكم شوائبُ ميثولوجيا.
أما كان أولى  وشفافية المِيديا  أن تعكسَ كاميراتُكم مأساةَ تاريخٍ
عنوةً قد تجاهلتموه؟.
أما كان أجدى أن تصُوروا فى فجيعةٍ مشهد،َ ما فعلّ أجدادُكم بأناسٍ
كانوا هنا قبلَكُهم أصدقاءً للشجرِ وبالعُشبِ الغزالِ؟.
فلتتجاوزوا الأرباحَ إذاً ولتدعوا إلى الإنسانِ أكثرَ! .
نظرَ الرجلُ الغريبُ إلى الُمحقق الذى وضعَ كفيّه فى نصفهِ، ثم قال
كمن يحادثُ نفسَهُ:
.« What the fuck! »
دخلت سكرتيرةُ مكتبهِ مُسرعةً، ونادت عليهِ:
.« Sir!..» 122
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
صاح وهو يضربُ الطاولةَ بيده، وكأنه لم يسمعْ صوتهَا. .«Damn !»
كررت السكرتيرة نداءها. .« Sir..»
التفت إليها ببطءٍ، وسألها بقرفٍ:
«What !»
.«! رئيسُ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكية على الهاتفِ »
رفع المُحققُ حاجبَيه فوق مُستوى الدهشةِ، وكذلك الرجلُ الغريبُ
والحراسُ، وكلُّ الضباطِ الموجودين فى الغرفةِ.. ظل المُحقق مُسمراً فى
مكانهِ لمدةٍ، ثم تحركَ صوبَ الهاتفِ وهو يسائلُ ذاتُهُ عن الذى يمكنُ
أن يجعلَ الرئيسَ شخصياً أن يتصلَ عليه. .
رفعَ سماعةَ الهاتفِ بحذرٍ:
.« سيدى الرئيس، أنا فى الاستماعِ »
مرت خمسُ دقائقَ كاملةٍ، خيَّم فيها السكونُ على المكتبِ، وتوقفَ
كلُّ العاملين فى انتظارِ المُحققِ ينهى كلامَه مع السيدِ الرئيس..
مشحُونين بالتوقعِ كانوا ينظرون إليهِ، وكان هو خلالها لا يجيبُ سوى
بجملةٍ واحدةٍ:
.« ! حاضر سيدى.. س نقبضُ عليهِ قريباً »
وضعَ المُحققُ سماعةَ الهاتفِ فى مكانِها، ثم التفت إلى الرجلِ
الواقفِ بقربهِ، وكل الذين حولَهُ وصرخَ فيهم:
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
123
إلى ماذا تنظرون، هااا!. إلى ماذا تنظرون؟.. »
ارجعوا إلى عملِكم، أريدُ هذا الرجلَ المجنون حالاً، انشروا صورَه
فى الصفحاتِ الأولى من الصحفِ، وقنواتِ التلفزةِ الحكوميةِ.. الأماكنَ
العامةِ، وكل الساحاتِ والمقاهى. .
.« أريده حالاً.. هل تفهمون؟.. أريدهُ حالاً
ثم تحرك الى مكتبهِ، قبل ان يتوقفَ فى نصفِ الطريقِ ثانيةً، ويصيحُ
فيهم دون ان يلتفت اليهم:
.« I said, right now!»
ثم يدخلُ مكتبَهُ صافقاً البابَ خلفهُ..
هُرع جميعُ الذين فى المبنى بسرعةٍ إلى أماكنهم يعملُون، وخرجَ
الرجلُ الغريبُ بسرعةٍ وهو يُركب أزرار بدلتهِ يلحقُ به الحارسان. يأتى
جنديان ضخمان ويرفعانى من يدىّ بعنفٍ، ويأخذانى للحجز الانفرادى
ثانيةً.
يقفلُ أحدُهما البابَ الحديدى بقوةٍ، ويقولُ لى وهو يُصوبُ أصبعهُ
نحوى:
.« ! من الأفضلِ لك أن تعترفَ »
ثم يصفعنى بنظرةٍ حادةٍ، وينتزعُ مفتاحَ البابِ الضخمِ بقوةٍ.. ويغادرُ.
قضيتُ خمسةَ أيامٍ أخرى فى السجن الانفرادى. تم التحقيقُ معى فيها
124
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
مرتين. وإرسالى بعدها إلى سجن (فوكس ريفر).
كان الرجلُ المجنون حينها قد أصبحَ حديثَ الساعةِ فى الولاياتِ
المتحدة الأمريكية، فقد كان ذلك الكلامُ الذى قاله فى الكونغرس،
وهوليوود وأماكنَ أخرى، قد زعزعَ الشارعَ الأمريكى بالكاملِ.
فبعد يومين فقط من الذى قالهُ هناك، طالب بعضُ عمالِ المصانعِ
بزيادةِ الأجور. وفى أقل من أسبوعٍ من ذلك تظاهرَ الأمريكيون من
الأصولِ الإفريقية فى مدينة (ديترويت) فى ولاية ميشيغان لإطلاق
شرطى أبيضَ النارَ على مراهقٍ من السودِ أثناء سطوهِ على أحدِ المحلاتِ
التجارية.
كما طالبَ بعضُ الكُتاب من الهنودِ الحُمر بإعادةِ كتابةِ تاريخهم
وإدخالِه إلى المنهجِ الأكاديمى، وانقسمَ الشعبُ الأمريكى بين مؤيدٍ
ورافضٍ، واختلف الحزبُ الديمقراطي مع الجمهوري عن مدى صدقِ ما
قالهُ المجنون من عدمِهُ.
فأعطى البيتَ الأبيض التعليماتَ بالقبضِ عليه فوراً، قبل أن يفاقمَ
مع ال F.B.I الوضعَ الاجتماعى والسياسى فى البلاد أكثرَ، واختلفت ال
فى تولى القضيةِ، نظراً لخصوصيتها وحساسيتها!. C.I.A
فقام البيتُ الأبيضُ بتسليمِ القضيةِ إليهما معاً، ثم أضافَ إليهما وكالةَ
وهي وكالةُ فيدراليةُ مختصةٌ بجمعِ .N.S.A الأمنِ القومى الأمريكى الصرخ
المجنون 􀀷 هكذا..
125
المعلوماتِ، وتحليلُها بواسطةِ الُمتقدِم من التقنياتِ. قال لى مديرُ
السجنِ البدين فى مكتبهِ، وهو يُوضحُ لى سياساتِ السجنِ الداخلية:
كيف استطاعَ الرجلُ المجنون إرسالَ رسالتَه تلك إلى جميعِ »
.«؟ المشتركين فى شبكةِ التواصلِ الاجتماعى
سألتهُ متعجباً. .« ! أىُّ رسالةٍ »
ابتسمَ مع نفسهِ كمن تذكرَ شيئاً، ثم قال:
أوه نعم، أنت لم ترَ العالمَ منذُ مُدة. إن رجلَك المجنون يا عزيزى »
قد بعثَ برسالةٍ إلى جميعِ المشتركين فى شبكاتِ التواصل الاجتماعى،
وقال لهم:
أنتم هنا لا تعدون أن تكونوا أكثرَ من إشارةِ فيزيائية للقمرِ »
.« ! الاصطناعي، يترجمَكم أرقاماً ويرسلَكم رموزاً تسمونها لغةً
سألتهُ مُتلهفاً. .« ؟ وماذا قال أيضاً »
نظر إلى بتفحصٍ، ثم اعتدلَ فى جلستهِ وأخذَ يبحثُ فى الطاولةِ عن
شيءٍ ما، قال بعد أن تناولَ الصحيفةَ الموضوعةَ تحت الملفِ الذى
أمامهُ:
ثم أسندَ رأسَهُ على الكرسى ثانية. وقال: .« هااا هى ذى »
وأخذا يقرأُ من الجريدةِ: .« هذا هو الخبرُ كاملاً »
تلقتْ شركاتُ التواصلِ الاجتماعى، وطاقمُها العاملُ اليوم، الكثيرَ » 126
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
من الأسئلةِ والاستفساراتِ عن تلك الرسالةِ الغريبةِ، التى استقبلها
معظمُ المشتركين فى بريدِهم الخاصِ.
وهى رسالةٌ من مجهولٍ، يضعُ على بُرفايلهِ صورةَ مُخلاةٍ ويحملُ
وأن الذى يدعو للحيرةِ، كما قال مُديرو الشركةِ، أنهم ، (You) الاسمَ
لم يستطيعوا الحصولَ على أي معلوماتٍ عن هذا الشخصِ، ولكن بعد
التدقيقِ فى محتوى الرسالةِ، وطبيعةِ اللغةِ، والأفكارِ، والسردِ اكتشفوا
أنه الرجلُ المجنون.. تقولُ الرسالةُ:
ها أنتم ذا يا سادة، فى أحابيل ما بعد الحداثةِ تعيشون الافتراضَ. »
تتجاوزون الوقعنَة، وتبنون عالمَكُم التكنولوجى على أنقاضِ حقيقةِ
واقعِكم وفشلِ المشاريع.
شبكاتُ التواصلِ الاجتماعيةِ هى محضُ خيالٍ، وهذا البوست لم يوجدْ
سوى فى شاشةِ هاتفك الذى بحجمِ كفك، ويمكن أن يختفى بكل
بساطةٍ إن فَرِغت البطارية!ُ.
فهل تفهمون الذى أعنى ؟.
أم أنكم تخافون حقيقةَ أن جُل أصدقائِكم هنا هم مجرد فُتون..
انتم كوجودٍ هنا لا تعدون أن تكونوا أكثرَ من إشارةٍ فيزيائيةٍ للقمرِ
الاصطناعي، يترجِمَكم أرقاماً ويرسلَكم رموزاً تسمونها لغة، وما اللغةُ
سوى أنها رموزٌ أصبغناها بالدلالةِ، كما أن الدلالةَ هى ماهيةُ المدلولِ
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
127
.« فى التصنيفِ
نظر إلى المديرِ بطرْفِ عينهِ، ثم واصلَ قارئاً:
فلا تثقوا بالحبيباتِ الرموزِ، لأن لحقيقةِ الحضورِ نكهةً كامل .. »
الثقةِ، وللتكنولوجيا حِيلُها، ولها فعل الصوالين/ الطبقةُ فى التبرج أن
فقط عرَف مستخدموها استعمالَ برامجِ الإضاءةِ.
صورةُ البروفايل لواضعِها لها مغزىً مُدركٌ، فإن كانت صورتَهُ
الشخصيةَ فلها صِدقُ الحضورِ، وإن كانت لأشياءٍ أخرى فهى تعكسُ
نفسيتَهُ ووميضَ مُبتغى.
فلتدركوا إذاً  وروعة الرُبى  أن باقاتِ الورودِ التى يضعنها الجميلاتُ
على صفحاتِهنّ الشخصيةِ، هى مجردُ صورٍ لا تُخرِجُ رائحةً.
ولذا تظلُ للطبيعةِ خصوصيتُها، والتكنولوجيا مساحيقُ تجميلٍ لا
يُزيلها الماءُ كما يفعلُ بوجوهِ السيدات، بل يمكنُ أن يزيلها بكلِ بساطةٍ
انقطاعُ التيارِ الكهربائى، ليصبحَ كل الذين عرَفتهم هنا مجردَ افتراضٍ!.
فهل لديكم ميكنزم ربطٍ لما أقول؟..
أم هى ضخامةُ الهوةِ بين المُدركِ واللاوعى فيكم؟.
لأنى ببساطة اريدُ ان اقولُ ان لا ترضعوا التسليةَ يا سادتى..
..« ! لأن للعالم حوجاتٍ أكبرَ
نظر إلىَّ مديرُ السجنِ ثانيةً، ثم قال لى وهو يُطبق الجريدةَ:
128
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
ثم عندما حاولَ الناسُ الردَ على هذه الرسالةِ ومحاورتَهِ، كانت »
ثم أردف: ..« الرسالةُ وحسابُ الرجلِ المجنون قد اختفيا!
..« هذا هو الخبرُ، ولا أنكرك أنى أصبحتُ أحِبُ هذا الرجلَ »
ثم أضاف بسرعة كمن استدرك، وهو يشيرُ إلى الشُرطى الواقف
قربهُ:
يمكنك أن تجدَ أخبارَه فى جرائدِ السجنِ التى نوزعها مجاناً هنا »
تقدم الشرطى نحوى، ورفعنى من ساعدى برفقٍ هذه !.« للمعتقلين
المرة، ثم قادنى إلى رقم زنزانتى.
كان المساجين يرمقوننى بنظراتٍ عدائيةٍ، وآخرون بنظراتِ تعاطفٍ
أو إعجابٍ لم أفهمْ سببَها إلا فيما بعد.
جلست على السريرِ الضيقِ وأنا أسمعُ صوتِ المساجين فى الزنزانات
المجاورةِ بين اللعناتِ، والضحكِ على تعليقِ أحدِهم، وهو يسخرُ من
شرطى الحراسةِ، عاد الحارسُ الُمتعاطفِ من جديدٍ، ومعه لوازمى
والكثير من صحفٍ.
يقول لى، ثم تابع وهو يمُدها .« هذه هى الأشياءُ التى تحتاجها »
نحوى:
وهذه هى صحفُ الاسبوع كُلها. اقرأها على مهلٍ لأن المللَ »
!.« سيقتُلك هنا
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
129
استلقيتُ على السرير واضعاً يدىّ خلف رأسى، وأنا أنظرُ إلى السقفِ
العالى وأفكرُ فى الذى قالهُ لى المحامى قبل يومين:
إننا نحاولُ أن نجعلَ القضيةَ تأخذُ منحى رأى عامٍ. هذا قد يساعدنا »
.« فى تعجيلِ المحكمةِ
تذكرتُ مساعِدتهُ المتعجرفةَ التى سألتنى:
.« ؟ ماذا يريدُ الرجلُ المجنون من العالمِ »
لستُ أدرى لماذا سألتنى هذا السؤالَ، ولماذا انتظرتْ منى الإجابةَ..
قالت عندما لم أجبْ:
هذا كان سيكون سؤالى لهُ، لو أتيحتْ لى فرصةُ مقابلتهِ مثل تلك »
.« اللعينةِ ماثيلى
كانت ماثيلى هى مراسلةُ التلفزيونِ التى استوقفتْ المجنون، وهو
خارجٌ من إحدى المقاهى فى واشنطن.
قطع تفكيرى صوتُ جرسٍ عالٍ، كان هو زمنَ الفسحةِ التى تمنحها
وزارةُ العدل للنزلاء فى السجن. أربعُ ساعاتٍ فى اليوم تكونُ فى ساحةِ
السجن الخلفية، وهى ساحةٌ خضراءُ كبيرةٌ، مُشددةُ الحراسةِ، ومُسورةٌ
بحائطٍ ضخمٍ يعلوه السلكُ الشايك وابراج المُراقبة، لأنها المكانُ الوحيدُ
الذى يلتقى فيه كل المساجين فى مكانٍ واحدٍ.
أثناء خروجى، وفى ردهةِ الزنزانةِ، وضعَ أحدُ المساجين ساعدَهُ على
130
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
الحائطِ أمامى بقوةٍ، كان عليها وشماً يقول:
.« الأنسنةُ شرطُ تعايشٍ »
حدق الرجلُ فى عينى طويلاً، ثم أنزلَ يدَه ببطءٍ وغادرَ وهو ينظرُ
إلى دونَ أن يقول شيئاً.. أصابنى ذلك بدهشةٍ، وأنا أتذكرُ أن هذه جملةً
قالها المجنون فى خطبتهِ فى متحفِ اللوفر فى باريس. تساءلت:
كيف وصلتْ إلى ساعدِ هذا المسجون المقطوع هنا؟، ولماذا أرادَ »
وتذكرتُ فجأة الجرائد التى جلبها لى الحارسُ فى .«!؟ منى أن أراها
زنزانتى، وقررتُ مطالعَتها فورَ انتهاء الفسحةِ.
فى ساحةِ السجن؛ كان السجناءُ ينقسمون إلى عصاباتٍ تسمى الأخويةَ
الآرية، وقد تشكلتْ رداً على سيطرةِ الزنوجِ على الحياةِ داخلَ السجونِ
الأمريكية.. ومع مرور الوقت، أصبحتْ هذه العصابةُ التي تَضمُ في
عضويتها السجناءَ البيض، كياناً منظماً يدير نشاطَهُ داخلَ السجون
وخارجها.. تذكرتُ قولَ الرجلِ المجنون فى السودان:
.« ! اللونُ هو ديباجةُ الله فى الهويةِ »
كان بعضُ المساجين فى الساحةِ، ينظرون إلى وهُم يتغامزون،
تذكرتُ الصحفَ ثانيةً، وزادتْ رغبتى بمطالعتها فور عودتى إلى
الزنزانةِ. انتابنى شغف لمعرفةِ الذى فاتنى أثناء احتجازى فى مكتبِ
التحقيقِ الفدرالى، سمعتُ فجأةً صوتًا خلفى يقول:
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
131
إن تلك الأخطاءَ التى جلبتنا إلى هنا، (تلك الاخطاء التى غيرت »  
مسيرة حياتنا كُلها. هى لم تكن أخطاءٌ وقتَ أن فعلناها، بل كانت
.« ! الفعلَ الذى اعتقدناهُ صوابًا حينها وفعلناه بمَلء إرادتنا
تلفتُ جهةَ الصوتِ مُستغرباً، فكان ذلك هو السجينُ صاحبُ الوشمِ..
قلتُ لهُ بسرعةٍ:
هذه جملةٌ قالها المجنونُ لعامل المقهى فى الحى اللاتينى فى »
.«؟ باريس، من أين لك بها
أجابنى بتهكمٍ، وهو يغادرُ جهةَ شلتهِ:
.«! أنا أحفظُ كل الذى قالهُ فى السودانِ وباريس معاً، فهو نبى »
اتجهت أنا إلى شرطى الحراسةِ، وأخبرتُهُ أنى أشعرُ بتعبٍ وأحتاجُ أن
أرتاح.. طلب منى الانتظارَ ريثما يستشيرُ الضابطَ المسئولَ. عادَ إلىَّ
بعد مدةٍ، وأرجعنى إلى الزنزانةِ.. انتظرتُ مغادرتَهُ، ثم أخذتُ أتصفحُ
خبطِ عشواء الصحفِ المرميةِ أمامى.
صحيفةُ وشنطن بوست على صفحتها الأولى:
ظهورُ جمعياتٍ فى باريس لدعمِ الأنسنةِ التى يدعو لها الرجلُ »
.« المجنون
نيويورك تايمز عنوانٌ بالخطِ الأحمر العريضِ:
الرجلُ المجنون يظهرُ فى الاجتماعِ العامِّ لمنظمةِ الأممِ المتحدةِ » 132
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
أقرأ الخبرَ كاملاً: ..« فى نيويورك، ويتكلمُ عن المفارقاتِ والتجربةِ
فى مقرِ الأممِ المتحدةِ فى نيويورك، وأثناء الاجتماعِ العامِّ »
للمنظمةِ، ظهرَ الرجلُ المجنون هناك، لا أحدَ يعلمُ من أين جاء، وكيف
دخل الى المقر. تقدم صوبَ المنصةِ غيرِ آبهٍ بدهشةِ وتساؤلِ المفوضين
من جميعِ بلدان العالم.. أزاحَ المُتحدثُ برفقٍ ووقفَ مكانَه.. ثم وضعَ
مُخلاتَه الحقيبة أمامَهُ، وصاح فيهم خاطباً:
لا تثقوا بهذا الورقِ الذى تُوقعون يا سادتى، إذ إنهُ لن يجلبَ لكم »
السعادةَ كما تحلمون، لأن الدُب القطبى قد يكونُ أسعدَ منكم، وهو لا
يحتاجُ الى فنجان قهوةٍ ليبدأ صباحَهُ.
فهل تنكرون أن الصراصيرَ ليست بحوجةٍ أن تعملَ ثماني ساعاتٍ
متواصلةٍ فى اليومِ لتوفرَ إيجارَ منزلٍ. و أن العصافيرَ لا تصنعُ الحروبَ؟.
وحدهُ الإنسانُ هو مَن يصنعَ الحروبَ يا سادتى، ويتفننُ فى اغتيالِ
أخيه.
وشكلهُ قد يكون قبيحًا أيها الوسمون، برغم من أنهُ قد جملهُ..
فهل تخيلتُم أنفسَكم، وأنتم عَرايا تماماً كيف تبدون ؟!.
هل تخيلْتُم كيف أن الرجالَ قبيحون كالشنبانزي، إن لم يحلقوا
ذقونَهم وشعرَ رأسِهم لمدةِ عامٍ واحدٍ؟!.
إن المعاييرَ التى فى أدمغتِكم هى ضدَّكُم ذاتها.. لأنكم لا تزالون
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
133
بشريين ولم تصلوا إلى الإنسانِ بعد.
الإنسانيةُ هى صفةٌ يمكنُ أن نطلقَها للبشر بعد إنتاجِ القيمِ الرفيعةِ
ايها السادة، تلك التى تجلبُ لهُ السعادة. هى الصفةُ التى يحاولُ
مجلسُكم هذا أن يجسدها، أن يعالجَ تاريخَه البشرى بالإنسانى فيه.
إن هذه الأخطاءَ البشريةَ التى تحاولون مُعالجتَها هنا، هى أخطاءُ
دولِكم ذاتها التى أنتم الآن تمثلونها فى هذا المكانِ،هى ذاتها من
أنتجت الحروبَ، ومُعسكرات الموتِ، ولا تزالُ تفعلُ ذلك..
إن الأطفالَ مفقوءي الأعينِ فى معسكراتِ اللاجئين فى إفريقيا، وفى
الفقير من آسيا البعيدة والقادم من توقع..
كُّلهم نتاجُ أخطائِكم أنتم وخللِ التاريخِ.
الأنانيةُ هى الغريزةُ التى تحتاج إلى تشذيبٍ فيكم.. وليس الواقعَ
.« وحده
كان هذا كل الذى كتبتهُ النيويورك تايمز، عن خطابِ الرجلِ المجنون
فى الجمعيةِ العامةِ للأمم المتحدة، ومُلحِقةً هذا الخبرَ بتعليقٍ للمحرر
يقول:
.« ! ليتهم يعلمون »
أُقلبُ ما تبقى من الصحفِ الأمريكيةِ بلهفةٍ كبيرةٍ لمعرفةِ الذى حدثَ
فى مقرِ الأمم المتحدة كاملاً.. صحيفة ديترويت جويش نيوز  اليهودية
134
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
تكتب: (اختلافُ أعضاءِ منظمةِ الأمم المتحدةِ بعد خطابِ المجنون
الذى انتهى باختفائه كالعادة.. وذلك بعد أن صرخَ فيهم:
أوقفوا مصانعَ الأسلحةِ ليومٍ واحدٍ يا سادتى وسيختلفُ العالمُ، »
اقتلوا هذا الجشعَ فيكم ليظهرَ الإنسانُ أكثرَ. إن بطاطين البردِ التى
توزعونها للاجئين لن تجلبَ لهم وطناً..
وبطاقاتُ طوابع الطعامِ التى تمنحونها لهم لن تنسيَهم الهويةَ.
وإنه، وبرغم فوضى التاريخ، لدينا مساحةُ حريةٍ كى نكونّ إن فقط
وعينا الأنسنةَ كشرطِ سعادةٍ. لأن ذات هذا العقلِ الذى ابتكرَ الرصاصَ،
هو نفس العقل الذى اخترعَ الأغانى!.
وان ذات هذا الغريزى فينا الذى حدَّد لنا بعضَ صيرورة الماضى، لهُ
.« !( كابحٌ يهذِّبه هو ذات العقلِ الذى أنتجَ لطيفَ الدلالةِ لمفردةِ (الغد
كان هذا كل الذى ذكرتْه صحيفة جويش نيوز  اليهودية.. واصلتُ
مُطالعةَ الصحفِ الأخرى، معظمها كانت عناوينُها عن الرجلِ المجنون..
خبرٌ هنا مثل:
مُلاحقةُ أفرادِ جمعيةِ أصدقاءِ الرجلِ المجنون، من قِبلِ جهازِ الأمنِ »
أو مُقالٌ هناك بعنوان: .« فى السودان
احتجاجِ أصدقاءِ المجنونِ فى كالفورنيا على سياساتِ الولايات »
!.« المتحدة فى الشرقِ الأوسط
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
135
قضيتُ ليلى يعصفُ بى مُوجُ الأرقِ. رشيتُ الحارسَ ليُحضرَ لى
قارورتى ويسكى صغيرتين. كتلك التى يوزعونها داخلَ الطائرات.
قرأتُ ما جاءت بهِ الصحفُ عدةَ مرات.. وتساءلت عن:
من يكون الرجلُ المجنون فى حقيقتهِ فعلاً يا ترُى، وماذا يحملُ فى »
مُخلاتهِ الحقيبةِ تلك من أشياءٍ؟.
.« ؟ ثم لماذا اختارنى أنا شخصياً لأكتبَ عنهُ
استسلمتُ للنومِ فى سريرِ الزنزانةِ الضَّيقِ مُبتلعاً أسئلتى هذه، وتلك
التى لم أطرحْها علىّ أيضاً.!
استيقظتُ صباح اليوم التالى على صوت ميكروفون السجن العالى
ينادى بإسمى. جأنى شرطيان حراسة فى زنزانتى. واخبرانى ان اجهزُ
نفسى بسرعة لان مدير السجن يريدُ رؤيتى!. نهضتُ بتعبٍ وقرف، وانا
افكر عن الذى يمكن ان يريدهُ المديرُ منى الان.
ينتظرانى الحارسان على بابِ الزنزانةِ، ثم يصطحبانى الى مكتب مدير
السجن. داخل المكتب كان هناك المحامى برفقة مساعدتهِ. استقبلانى
بإبتسامة عريضة عند رؤيتى. قال لى المديرُ وهو ينهض من مقعدهِ:
!.« حسناً، يبدو ان هناك اخباراً سارة فى انتظارك »
ثم يركب ازارَ بدلتهِ، ويخرُج مستأذناً.. تاركنى أنا والمحامى ومساعدته
فى المكتب. اتفحصُ وجهيهما الفرحين مُحاولاً استنباط سبب هذه
136
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
الزيارة المفاجأة. اسألهم:
.« What is going on .. !?.»
نهضُ المحامى من مقعدهِ، ثم اشارة لى بالجلوس وهو يقولُ مُبتسماً:
لحُسن حظِنا أن المجنون أصبحِ له أنصارٌ داخلَ الكونغرس ذاتَهُ، »
..« يحبونهُ ويؤمنون بما يقول
طلبتُ منهُ أن يوضحَ أكثرَ، فقال:
إن قانونَ ( باتريوت أكت) هو قانونُ مكافحةِ الإرهاب الذى تم »
إقرارُهُ بعد اعتداءات 11 سبتمبر 2001 فى الولايات المتحدة.. وهو
يمنحُ مكتبُ التحقيقِ الفدرالى صلاحياتٍ واسعةً منها توقيفُ المتهمين
.« والتحرى معهم
سألتهُ وأنا أستبعدُ أقربَ احتمالٍ. .« So..»
وهذا القانون ( يُواصل المُحامى) وجدَ معارضةً ضخمةً فى مجلسِ »
النوابِ، باعتبارهِ يُقوِّضُ الحرياتِ، ويبدو أن بعضَ مُحبى الرجلِ المجنون
.« هناك قد تناولوا قضيتَك
ثم واصلتْ مساعدتُهُ بابتسامةٍ عريضةٍ:
.« So, lets go home!»
نهضتُ من مكانى، ولم أصدقْ أبداً أن يتمَ الإفراجُ عنى بهذه السهولةِ..
طلبتُ منهما أن يوضحا لى الذى حدثَ بتفصيلٍ أكثر.. أجابنى المُحامى
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
137
وهو يُخرجُ ملفاً من حقيبتهِ:
إن بعضَ المنظماتِ القانونيةِ، قد طالبتْ بإطلاقِ سراحِك لعدمِ »
توافرِ أدلةٍ كافيةٍ للاعتقال، وهذه المُطالبةُ وجدتْ دعما داخلَ الكونغرس
نفسهُ، وبعد عدةِ مفاوضاتٍ قررتْ المحكمةُ الفدرالية إطلاقَ سراحِك
.« لمدةٍ غيرَ مشروطةٍ حتى تتوافرَ أدلةٌ يركنون إليها ضدك
أفرحنى جداً هذا الخبر، دخلتُ برفقةِ الحرسِ إلى الزنزانةِ، لملمتُ
أشيائى بسرعةٍ. وقبيل خروجى وقعتُ برفقةِ المُحامى بعضَ الأوراقِ
القانونيةِ فى السجن وغادرنا.
خارجُ السجنِ؛ كان هناك العشراتُ من الصحفيين، ومُراسلي التلفزيون
بصحبةِ كاميراتهم ينتظرون.. أمطرونا بأضواء فلاشاتهم، ثم تكالبوا علىّ
بالأسئلةِ حين خروجنا.
.« ؟ سيدى من هو الرجلُ المجنون »
سألنى صحفي.. وقبل أن أجيبَ تسألُ مذيعةٌ:
لماذا تعتقدَ أن الناسَ أحبتْ الرجلَ المجنون برغم نقده »
.« ؟ لمسلماتِهم
يصيحُ صحفيٌ آخر من بعيدٍ:
.« ؟ هل تعتقدَ أنهُ سيتمُ القبضُ على الرجلِ المجنون »
يُطوقاننى المحامى ومساعدتُه، ويسيران بى جهةَ سيارتهم معتذرين
138
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
من الصحفيين والاعلاميين، ومذيعى التلفزيون.
وبعد خروجى من السجنِ؛ كنتُ أعلمُ بأنى مُراقبٌ، هاتفى وشقتى
وحتى أصدقائى، ورغم وصايا المحامى بألا أخرجُ خلال هذا الأسبوعِ..
فقد اغتبطتُ جداً عندما اتّصلَ بي صديقى ريتشارد ودعانى إلى أن
نذهبَ إلى البار سوياً، ثم أردفَ بعد نهايةِ المكالمةِ:
.« أعلمُ يا صديقى أنك مُرهقٌ وتحتاجُ إلى بعض ترويحٍ »
عرَف ريتشارد حوجتى تماماً، فقد قضيتُ ما يُقاربُ الشهرَ وأنا مُتنقلاً
وسجن .F.B.I بين الحبسِ الانفرادى فى مكتبِ التحقيقِ الفيدراى ل
فوكس ليفر. تعرضتُ خلالَها لضغطٍ نفسى عالٍ!. وافقتُ على اقتراحِ
ريتشارد، وقلتُ لنفسى إن وصايا المحامى لن تكبحُنى عن مُمارسة
الحياةِ. واتفقنا ان نلتقى مساءً فى بارٍ كنا نفضلهُ فى وسط المدينةِ،
ونأتيه من حينٍ لآخر.
قضيتُ يومى وانا استمعُ الى الاخبار عن الرجل المجنون. أُدوّنُ بعض
المُلاحظات، واجيبُ على مكالمات الاصدقاء من الكتاب والصحفيين.
مُهنئين ومستفسرين عن حالتى ومُجريات القضية. ثم اتصلتُ مساءً
بسيارة تاكسى تقلنى الى وسط المدينة حيث سأقابل ريتشارد.
كان البارُ مُزدحماً جداً.. أول أيام الأحدِ من شهرِ فبراير فى كل عام،
هو تاريخُ المباراةِ الختاميةِ لدورى كرةِ القدمِ الأمريكية. الرياضةُ الأكثرُ
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
139
شهرةً، وأكبرُ شعبيةً فى الولايات المتحدة.
هل تعلم يا صديقى! ان هذه المباراةُ، هي حدثٌ يجلبُ الملايين »
للمدينةِ المنظمةِ، والشعبُ الأمريكي ينظمُ حفلاتٍ بالمنزلِ، وكل عائلةٍ
.« تدعو الأصدقاءَ والأقاربَ ريتشارد إلى ما يسمى بحفلةِ السوبربول
قال لى ريتشارد هذا، وهو ينظرُ إلى التلفازِ الضخمِ يمينى، ثم
استرسلَ وهو يرفعُ جُعته من الطاولةِ أمامهُ:
يمكنك أن تتخيلَ هذا.. يُشاهدها حوالي 105 ملايين مشاهدٍ على »
.« التلفزيون في الولاياتِ المتحدةِ والعالمِ
أتلفتُ إلى التلفازِ الذى يمينى لمشاهدةِ المبارة. كان الزبائنُ فى قمةِ
انسجامِهم بين ندى البيرة وهُتاف التشجيع. يضحكون وينادون على
اللاعبين بأسمائهم..
ثم فجأةً، قُطع الإرسالُ، وظهرَ على الشاشةِ الرجلُ المجنون!. هو
نفسهُ كان ومُخلاتهُ الحقيبةُ فوقَ كتفهِ. يحملُ مُكبرَ صوتٍ فى يدهِ
ويُلوحُ بيده الاخرى!.
أقولُ لنفسى. « Oh my god ..! »
كان يقف فوقَ القاعدةِ الجرانيتيةِ لتمثالِ الحريةِ فى نيويورك، وأمامهُ
مباشرةً رهطٌ غفيرٌ من الناسِ، بعضُهم يُلوحون لهُ مُحيين، وآخرون
يُصورون.. أُصابُ بالذهول، يفتحُ ريتشارد فاهه، وهو يُحول نظرَه بينى
140
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
والتلفاز.. يصرخ بعضُ الزبائن:
.« What the fuck ..! »
آخرون:
.« No hell! »
يُلوح الرجلُ المجنون بيدهِ لهم مُحييا لمدةً، ثم يرفعُ مُكبرَ الصوتِ،
ويقول لهم بصوتٍ رزين:
هو الإنسانُ إذاً يا سادتى.. »
هذا الجميلُ الذى خَلَق المدنَ التى تضحك، ونَفَث الإلهامَ إلى عقلهِ
ليخلدَ ذاكرتهُ والطبيعة.. تناقُضُهُ بين قبحٍ حيوانى مُغلفٍ بمنتجاتهِ
نفسها، وجميل ساحُرٍ يخلقهُ ذات هذا الإنسانِ كل يومٍ.
تَقليم أظافرِكم يا سادتى هو مُحاولةٌ يائسةٌ لتخرجوا من البشرى فيكم
إلى الإنسانِ الذى تريدون أن تكونوه، والإنسانى لا يعنى البشرى، لأن
البشرى فصيلٌ حيوانى والإنسانيةُ هى مرحلةٌ أعلى، صفةٌ نطلقها للبشر
بعد إنتاجِ القيمِ الرفيعةِ، تلك التى تحتاجونها لتكونوا أقلَّ ألماً، وأكثرَّ
.« سعادةً
.«Yes, this my man.. »
يصرخُ نادلُ البارِ وهو يضربُ بيدهِ على الطاولةِ.. أواصلُ، وملايين
المشاهدين فى أرجاءِ العالمِ، الاستماعَ مندهشاً إلى الرجلِ المجنون
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
141
وهو يقول:
لا تزالُ الإنسانيةُ مرحلةً لم تصلوها بعدُ يا سادتى حتى وإن »
أنتجتم أكثرَ قيمِها رفعةً.. وتجسيداً لها نحتم تمثالا لا يُبادلُ طفلاً يمرُ
على الطريقِ الابتسامةَ كهذا الذى أقفُ على قاعدتِهِ الآن، وأنتم هنا
لتزوروه.
لأن الحيوانيةَ فيكم يمكنُ أن تعرِفوها  ببساطة  بمقاربةِ الاعترافِ
بأن إخوانَكم ماتوا، وما زالوا يموتون من حروبٍ أنتم الذين خلقتموها،
وسكبتُم عليها من زيتِ موتاهم لتزدادَ اشتعالاً!.
كما أن الحضارةَ الحديثةَ لم تجلبْ للبشرِ السعادةَ، لأنهم لم يكونوا
بعد كما أرادوا لاسمهم (الإنسان) أن يكون، لم يستوعبوا المفارقةَ فى
الحياةِ، بأن قسوتَها هى واحدةٌ من حتميةِ صيرورتها ذاتها لتكونَ حياةِ،
ولكنْ لدينا قدرةُ تجميلِها بتقليلِ المعاناةِ فيها بالأنسنةِ كمفهومٍ كونى،
وكقيمةٍ متجاوزةٍ..
تقليلُ معاناةِ ذواتنا وآخرين كان يمكنُ أن تكونَهم، لو أن الصدفةَ
.« ! اختلفتْ قليلاً فى أمسكما القريبِ
قال المجنونُ ذلك ثم توقفَ لوهلةٍ، ورنا إلى عرضِ المُحيط.
.«Oh my God, do you see that ..? »
صاحَ أحدُ الزبائن فى البارِ، وهو يشيرُ إلى الجماهيرِ الكثيرةِ الذين
142
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
بدأوا يتوافدون من داخلِ مدينةِ نيويورك إلى جزيرةِ (الحرية) حيث
ينتصب التمثالُ. كان المِرفَأ العامُ للجزيرةِ واضحاً على الشاشةِ،
واليختاتُ والعابراتُ الصغيرة تحُط عليهِ مُحملةً بالناس الذين يتدلون،
ثم يُهرعون إلى الاستماعِ إلى الرجلِ المجنون!.
تتساءل النادلةُ. .«What did he mean .. ?»
واصل المجنون خطابَه وكأنهُ قد سِمِعَ استفهامَها:
منذُ أن كتبتْ المليونيرةُ ليونا هلمسلي تِرْكَتِها البالغةَ 12 مليون »
دولار لكلبتها (تروبل) احتضرتْ القيمُ المؤنسنةُ الوليدةُ أيها السادة
وانتحر الله!. لأنهُ كان ذات اليومِ الذى مات فيه سبعُون طفلاً فى
الصومالِ بسوء التغذيةِ.
لأن الاعترافَ بحقوقِ الحيوانِ لا يعنى أنسنتَهُ، كما أن حبى له لا يعنى
حيونَة آخرين هم من فصيلى. آخرون كان يمكنُ أن تكونَهم بكاملِ
تفاصيلَهم لو فقط اختلفتْ خطوةً واحدةً للوراء.
ان وعى احتماليةِ أن (تكونهم) يُولدُ شرطاً مؤنسناً فى التعاطى معهم
وهو التعاطف، والتعاطفُ هو رِدةُ الفعلِ الحتميةِ للسؤالِ الذاتى لحظةَ
.« (؟ مشاهدةِ الحدث ( ماذا إن كنتُ أنا هو
هذا ال(الهو)، هو أخْيرك النقيض، فى جغرافيةٍ مُغايرةٍ، صنعتْ منها
حركةُ التاريخِ تفاصيلِ مُعاناة، وهى ذات حركةِ التاريخِ الذى ساهمَ
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
143
أجدادُكم، وسياساتُ حكامِكم المنتخبين (ديمقراطياً) فى تشكيلِ
جدليتها.. فهل تفهمون الذى أعنى بالأنسنةِ كشرطٍ يُفرِزُ لكم السلامَ
والسعادةَ التى تصبون إليهما أيها السادةُ؟.
أم عليكم أن تعرِفوا أيضاً أن الأنسنةَ ك(قيمةٍ) مُتعاليةٍ هنا، تختلفُ
عن المعنى المجتمعى لها. فهى هنا مُتجاوزةً الجغرافى لمفهومٍ أرفعَ
هو الطوقُ الإنسانى إلى المعنى الانطولوجى للوجودِ.
.« أما القيمةُ المجتمعيةُ فهى محدودةُ الإطارِ ومشرُوطةُ الجغرافيا
خرج صوتُ رجلٍ من بين الحضورِ أوقفَ المجنون عن حديثهِ، طَلَع
الصوتُ ثانيةً أكثرَ وضوحاً.. كان رجلا يسألُ قائلاً:
.« ؟ لماذا القيمةُ المجتمعيةُ مشروطةُ الجغرافية أيها المجنون »
.« لأنها (أنا) المجتمعُ الرمزى الذى تمنحهُ معناه المُرتجى »
أجابهُ المجنون، ثم تابع وهو ينظرُ ناحيتهُ مُوضحاً:
هى تلك القيمُ التى يستميتُ المجتمعُ فى الإبقاء والمحافظةٍ »
عليها، ولهذا هى الأقلُ والأبطأ تغيراً فى حركةِ التاريخِ. وذلك لاقترانَها
بذات الأنا/المجتمع الذى يُعاملُ غيرَه كمُختلفٍ عنه تأكيداً للهوية،
ويمكن أن يؤدىَ إلى إلغائهِ بقتلِه أيضاً إن دعت الضرورةِ.
وبالتالى هى معُوقٌ فى حركةِ ذات الأنسنةِ التى تدعى نفسُ القيمِ
أنها تدعمها، ولهذا يجبُ تجاوزُها إلى مفهومٍ أرحب!.
144
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
هنا تكمنُ قيمةُ الإنسانِ وتناقضُهُ يا سادتى بين رُقيِّهِ فى إنتاجِ القيم،
وفى تخلّفِهُ بالمحافظةِ عليها أيضاً كمتراسِ أمانٍ فى الآن عينهِ.
العقلُ بجمالهِ أنتجها لإضفاءِ معنىً للوجودِ حتى وإن كان موهُوماً،
وفى مأساتهِ فى أنها أضحتْ ضدَّ هدفَها ذاتَهُ كمُكبِلٍ.
ولهذا، لا يوجدُ فى عالمِ النحلِ هناك متعصبون مكروهون كما فى
عالمِ الإنسانِ يا سادة، بيْدَ أن الفرقَ بيننا وباقى الحيواناتِ ليس فقط
أن ذكورَها لا تشترطُ على إناثها أن تضعَ عِطراً نسائياً مُثيراً حتى تكونَ
مرغوبةً أكثرَ.
بل الفرقُ هو أن الإنسانَ يستطيعُ أن يُخففَ المعاناةَ لذاتهِ والآخرين
بإنتاجِ المؤنسن من القيمِ. لا بأن يصطادَ غزالاً شارداً لأنهُ يهوى ذلك،
.«! بل بأن يمنحَ ذاته بذاك الغزالِ معنى إضافياً فى هذه الحياةِ
شوَّش صوتُ أزيزِ طائراتٍ داخلَ التلفازِ على صوتِ الرجلِ المجنون،
الذى أنزلَ المايكرفون من قبالةَ فمهِ، وأخذَ يرنو إلى بعيدٍ ثانيةً، تلفتت
معهُ جحافلُ الحضورِ الضخمِ المستمعةُ لهُ فى ساحةِ التمثالِ.
يا إلهى!، يبدو أنها سُفنُ وطائراتُ البحريةِ الأمريكية، ظهرتْ فى
عرْض خليجِ نيويوك مُتجهةً صوبَ الجزيرةِ حيثُ يَخْطبُ المجنون..
بدأ الجمهورُ يتهامس.. التفتوا ثانيةً إلى المجنون الذى رفعَ المايكرفون
وصاحَ فيهم:
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
145
ابنوا دولةَ الإنسانِ أيها السادة، وشرطُها السلامُ.. »
الحياةُ على هذا الكوكبِ الأخضر الصغيرِ جميلةٌ وممكنةُ، إذا ابتكرنا
فيها وهمنا الجميل.. القيمُ ليست سوى وهمنا بها.. ذاك الذى أصبغناه
المعنى كمُبرر وجود، وكما أنها تشكَّلتْ فى التاريخ، فلدينا قدرةُ تغيُّرها
أيضاً فى التاريخِ نفسهُ.
فصادِقوا الطبيعةَ أكثرَ يا سادتى ولا تحرِقوا الغاباتِ..
ولتعرفوا وأن مدينةَ بروكسيل ليست أروعَ من حدائقَ المنزلِ الريفى
البسيطِ بأى حالٍ أن خبرتكم روعةَ ذاكرةِ الفراش.
كما أن أرقى فنونِكم التى تشاهدون الآن خلاصتُها هنا، تظلُ خجلةً
أمام الطبيعةِ. ولن تستطيعَ أدواتُ مُحترفى تصفيفِ الشعرِ جميعُها
أن تُجسد فى رأس عارضةِ الأزياء مشهدَ ذكرِ الطاؤوس وهو يفردُ ذيلَهُ
مناغاةً لأنثاه فى نُعاسِ مساءٍ.
فلتكونوا أقل تبجحاً إذاً وأكثرَ تواضعاً، لأنكم لستم الأفضلَ  حتى
الآن بأى حال  فكل فردٍ منكم قد قتل كائناً حيا- ولا فرق أن كان إنساناً
.« ! أو حيواناً، فالأحياءُ سواسيةُ أمام الروحِ
وصلتْ السفنُ؛ وأخذتْ تدورُ حولَ الجزيرةِ وهى تنفص رغوةَ الموجِ
من تحتها بصوتِ زفيرٍ. طائراتٌ تحُلق فوقَ التمثالِ تنفثُ على المجنون
والجمهورِ رياحَ مراوحها.. يصيحُ ضابطٌ بِمُكبرِ الصوتِ من على السفينةِ
146
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
الأكبرِ من بعيدٍ:
بتفويضٍ من منظمةِ . U.S.N هذهِ قواتُ البحريةِ الأمريكية ال »
الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول).. أنت مُطلوبٌ دُولياً، اجلسْ
.« مكانَك، وارفعْ يديَك
يظل المجنون واقفاً مكانَه ينظرُ إليهم ولا يتحركُ.
صاح أحدُ الزبائن فى البارِ. .« هل سيقبضون عليه؟ »
لا أحدَ يجيبُ، الجميعُ يشاهدُ بذهولٍ وترقبٍ.. يكررُ الضابطُ النداءَ:
.« .. سنطلقُ عليك النارَ إن لم تمتثلْ لأوامرنا »
لا يزالُ المجنون يقفُ مكانَهُ دون حِراكٍ، يتهامسُ الجمهورَ ثانيةً،
صاح أحدُهم بصوتٍ عالٍ من بين الجموع:
.« ؟ جاء يدعو إلى الإنسانِ، جاء يدُعو إلى السلامِ، لماذا توقفوه »
صرخَ آخرُ. .« باسمِ الإنسانِ اتركوهُ، باسمِ السلامِ »
ثم هتفَ الجمهورُ كلَّهُ فى وقتٍ واحدٍ:
.« الإنسان..السلام، الإنسان.. السلام »
يُكررُ الضابطُ النداءَ بصوتٍ غير واضحٍ، تشوبَهُ هُتافاتِ الجمهورِ الذى
ماجتْ بها جزيرةُ الحرية.
ثم فجأةً يُقطعُ البثُ.. ينهضُ الزبائن من أماكنَهم مشدُوهين.
عادَ البثُ من جديدٍ، ولكن لم يكن الرجلُ المجنون هو الذى على
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
147
الشاشةِ هذه المرة، بل كانت مباراة (السوبربول) من جديدٍ.. يصرخُ
أحدُ الزبائن قاطعاً ذهولِ المشاهدين الذين لا يزالون مُسمرين ينظرون
إلى التلفاز:
.« No, no, no!.. »
يقولُ صاحبُ البارِ الضخم، وهو ينهضُ من مقعده. .« ؟ ماذا جرى »
لا أحدَ يُجيب.. ينظرُ إلى ريتشارد فاتحاً فمهِ:
.« What the fuck just happened ..?!»
يسألنى وهو يرفعُ كفيه إلى أعلى.. أتلعثمُ ولا أعرِفُ بماذا أجيبُ،
خرجَ رجلٌ إلى الشارعِ، ثم رفعَ كأسَه وصاحَ:
.« نخب الإنسان.. نخب السلام »
لَحِق به آخر وصرَخَ كذلك وهو يرفعُ كأسهُ:
.« نخب الإنسان.. نخب السلام »
وخرَج رابعٌ وخامسٌ، ثم البار كلَّهُ بعد دقائقَ كان فى الشارعِ يهتُف:
.« نخب الإنسان.. نخب السلام »
ثم يرفعون كؤوسَهم فى السماءِ ويضربونها مُحدثةً صوتَ رنينٍ..
يأخذون غصةً منها، ثم يُعاودون الهُتاف، يخرجُ آخرون من الباراتِ
والأماكنِ المجاورةِ، وينضمون إليهم هاتفين:
.« نخب الإنسان.. نخب السلام » 148
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
ينظر إليَّ أحدُ الزبائن بشكلٍ مُريبٍ. ينتشلنى ريتشارد بسرعةٍ من
البابِ الخلفى تجنباً للمتاعب إذا تعرَّف علىّ أحدُهم. أجرنا عربةَ
تاكسى كانت تقفُ بجادةِ الطريقِ، واتجهنا مباشرةً إلى شقةِ ريتشارد.
فى الطريقِ؛ كان راديو السيارة يذيعُ أخبارَ منتصفِ الليل، تقول
المذيعةُ:
خُروجُ جمعٍ غفيرٍ من الناسِ فى وسطِ المدينةِ عقبِ ظهورِ الرجلِ »
.« المجنون فى تمثالِ الحريةِ ويهتفون بالسلامِ والإنسان
قال السائقُ وهو شاردٌ فى ضوءِ السيارةِ التى أمامهُ:
 قد صدَقَ هذا المجنون حين قال:
الإنسانيةُ هى قيمةٌ متجاوزةُ الجغرافﯩا لمفهومٍ أرفع هو الطوقُ »
.« الإنسانى إلى المعنى الانطولوجى للوجودِ
نظرتُ إلى ريتشارد الذى أشار للسائقِ بالتوقف، وعند محاولةِ تخليصِهُ
قال السائقُ وهو ينظرُ إليَّ فى المرآةِ أمامهُ:
.« قد عرَفتك، فلا داعى أن تدفعَ، نحنُ نحبُ رجلَك المجنون »
شكرتُهُ وغادرنا.
كانت الشوارعُ قد بدأتْ تكتظُ بالجماهيرِ الهاتفةِ، الأسرُ تخرجُ فى
الأماكن السكنيةِ ويسيرون فى الطرقاتِ مُشكلين أفواجاً. يلتقون فى
تقاطعِ الشارعِ مع أشخاصٍ قادمين فى الطريقِ، أو أمامَ الأماكنِ العامةِ،
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
149
ينضمون إليهم وهم يهتفون:
.« الإنسان.. السلام »
صعدنا السلالم على عجلٍ.. فور دخولنا الشقةَ اتجهَ ريتشارد صوبَ
الثلاجةِ ليحضرَ علبتي بيرةِ يخففان من توترتنا. واتجهتُ أنا للصالةِ فاتحاً
التلفازَ.. القناة الأولى تصُورُ مشهدَ مئات الناس، يحملون مُلصقاتٍ فى
أيديهم من أقوالِ الرجلِ المجنون، ويهتفون باسم:
.« السلام والإنسان »
الشريطُ الإخبارى الُمتحركُ فى نهاية الشاشةِ:
خروج المئاتِ أمام البيت الأبيض فى واشنطن، ومعظمِ المدنِ »
الأمريكية بعد ظهورِ المجنون فى جميع أجهزةِ التلفازِ فى العالم..
.« وكان قد توقفَ بثُ البرامجَ لخطبتهِ فى تمثالِ الحرية
أُحولُ بيدٍ مُرتعشةٍ إلى القناةِ الثانيةِ، تغطيةٌ لخروجِ الجماهيرِ فى
إحدى الدولِ الإفريقيةِ فى الشوارعِ.. تقولُ المُراسلةُ الإخباريةُ:
الملايين من أبناءِ الشعبِ السودانى، يخرجون إلى الشوارعِ لإسقاطِ »
.« النظامِ الدكتاتورى فى البلادِ
ينظرُ إلىّ ريتشارد، أتناولُ غصَّةً من البيرة التى أمسكُها فى يدى، ثم
أذهبُ إلى القناةِ الإخباريةِ الثالثةِ وهى فرنسيةٌ تهتمُ بالحدثِ المباشرِ.
على شاشتها المتحركةِ، تظهرُ صورةُ عاشقين تحت إيفل يحملان صورةَ
150
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
الرجلِ المجنون.. مشاهدُ من شارعِ الشانزليزيه لمجموعةٍ من الناس
يهتفون:
.« الإنسان..والسلام »
آخرون أمام متحفِ اللوفر يلوحون بملصقاتٍ عليها عباراتٌ من الذى
قالهُ المجنون هناك.. يرنُّ جرس الهاتف، يرد ريتشارد ثم يناولنى
السماعةَ قائلاً:
.« ! المحامى »
أتناولُها منهُ بسرعةٍ، ثم أسألُ المحامى عن الذى حدثَ للرجل
المجنون، يُجيبنى بصوتٍ بعيدٍ:
.« No bady knows ..!»
سألتهُ مُتعجباً. .«What do you mean ..!?»
قال لى كلاماً مُتضارباً عن الرجلِ المجنونِ أثار مخاوفى أكثر.. فقررتُ
السفرَ إلى نيويورك صباحَ الغد لتقصى حقيقةِ الذى حدث هناك.
وصلتُ عند الثامنةِ والربع صباحاً؛ كان يخيمُ عليها هدوءٌ يوشى
بليلٍ كان طويلا. فهى كعادتها نيويورك تنهضُ من لياليها مُثقلةَ الخُطى.
البارات رفعتْ مقاعدَها فوق طاولتها الطويلِة تلك. ترددُ ضحكاتُ
الفتيات الأنيقات فى ليلهنّ المُضيء.
ناطحاتُ السحابِ بجانبىّ، وأسماءُ الشركات المتعددة الجنسيات
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
151
أمامى. مُلصقاتٌ ملونةٌ على الحوائط الضخمة كُتبت عليها مُقولاتٌ
للرجل المجنون أراها، مشردو الحضارة، سائقو التاكسي الأجانب
وسياراتهم الصفراء. شابٌ يُقبل فتاةً على جادةِ الطريق، وامرأةٌ مسرعةُ
تمر أمامى بصحبةِ كلبها الاسكيمو الصغير.
كل هذا كان حولى، وأنا أحتسى فنجانَ قهوةٍ من البائع الآسيوي فى
ساحة تايمز سكوير شاردُ الذهن. و أفكرُ عن الذى يمكنُ أن يكونَ قد
حدثَ للرجل المجنون.
ثلاثةُ أيام مضت، وأنا متنقلٌ بين المؤسساتِ الحكوميةِ فى نيويورك.
أقرأ تقريراً هنا، وأستفسرُ عن معلومةٍ هناك.. قال لى مديرُ مكتبِ
شرطةِ نيويورك فى منهاتن السفلى:
كل التقارير التى استطعنا جمعها عن الذى حدثَ للرجل المجنون »
فى ذلك اليوم تتضاربُ بشكلٍ كبيرٍ. فكلِ خبرٍ يعاكسُ معلومةً، وكلُّ
.« ! تقريرٍ ينسفُ تقريراً
كنتُ تواً قد فهمتُ المحامى حين قال لى ذلك اليوم على الهاتف:
.«No bady knows..!»
فقد قال شهودُ عيان كانوا هناك:
إن الرجلَ المجنون قد انتحرَ من قمةِ قاعدةِ تمثالِ الحرية قبل أن »
.« يُلقى القبضُ عليه من قواتِ البحريةِ الأمريكية
152
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
ويؤكد آخرون كانوا حضوراً فى نفسِ اليوم أيضاً بأنهُ:
.« ! قد سقطَ فى المحيط وسبح بعيدا بعيداً حتى اختفى »
وقال لى صحفى يحتفظُ ببعض الصورِ قد زرتهُ فى بيتهِ الريفى فى
مقاطعة أونتاريو:
إن الجماهير هى التى وقفت بين المجنون وقواتِ البحرية حين »
وحين سألتهُ عن الذى حدثَ بعد ذلك، أجابنى: ،« محاولتهم اعتقالَه
لا شىء، كتب مذكرتَهِ تلك التى يقول فيها إنهُ سيرجعُ لمغارتهِ فى »
.« ! إفريقيا واختفى
بعدها بيومين، قابلتُ سيدةً بدينةً قد دلنى عليها صحفى فى جريدة
أوهايو. تقول إن الرجلَ المجنون قد ظهرَ فى اليوم التالى لخطبتهِ فى
تمثالِ الحرية فى وول مارت، وقال:
الحياةُ جميلةٌ، ليست علينا سوى أن نضعَ وهمنا بها، ذاك الذى »
أقرناه المعنى كحوجة، ولطالما أن وجودَ الآخر هو شرطُ بقاء، وهذا
الآخرُ لهُ وهمهُ الخاص بهِ، هو إذاً يشكل الاختلافَ كقيمةِ تعددٍ،
والاختلافُ هو المُعطى الأساسى فى صناعةِ هذا الوهم كتصور، فوجودُ
الآخر إذاً، هو ضرورةٌ لتكوين حركيةِ مشهدِ حلقات الوهم الذى نحتاج
.« ! إليهِ كإبداع
وهذه الرواية من تلك السيدةُ قد أكدها بعضُ الشهودِ، ورفضها
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
153
شخصان من الذين قالت مدام رزفيت إنهم كانوا حضوراً لحظةَ ظهورِه.
أصابنى الأرقُ وعدمُ التركيزِ من قلةِ النومِ والتفكيرِ. أتذكرُ مشاهداَ
تمرُ بخاطرى طيفا وتختفى.. كانت آخرها القصةُ التى رواها أحدَهم فى
إحدى القنوات الفضائية بأنهُ:
.« يرى شخصَ المجنون فى صورتهِ كلما نظرَ إلى المرآة »
الأمرُ الذى جعلَ برفيسور (روفيل لاكان) أخصائى علم التماهى، ينكرُ
وجود شخصية الرجلِ المجنون فى الأساسِ!. وعندما سألتهُ المذيعةُ عن
الأشخاصِ الذين يرون شخصَه فى ذواتِهم أمام المرآةِ، أجابها البرفيسور:
ليس هناك شخصٌ يُسمى الرجلُ المجنون أساساً، وكل هولاء الذين »
.« يرونه هم يرون أناهم الجميلَ الذى أحبوه فى أسطورتهِ
وبعد نهايةِ الحلقةِ قالت المذيعةُ إن برفيسور لاكان هو المجنون
ذاتهُ. الأمرُ الذى أثارُ سخطُ مُحبى الرجل المجنون فى جميع أنحاء
العالم للاتهامات التى تقال فيه. تساءلتُ:
ماذا إن لم يكن الرجلُ المجنون موجودا فى الأساس كما قال »
برفيسور لاكان؟. أو أنهُ نبى النهر، ذاك الذى تؤمن به بعضُ قبائل
الأمازون يأتى كل ألف عامٍ ويغيب، أو ربما كان هو حقيقةً يُحاولون
.« تعتيمَ شخصيتهِ لأنهُ ينتقدهم ويعرى النفاقَ، نعم إنهُ حقيقةٌ
أقول لنفسى بصوتٍ عالٍ، واضيفُ فى سرى:
154
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
لا يمكنُ أن يرى كل هؤلاء الناسِ سراباً واحداً، ويحفظون عباراتهِ »
.« والكلماتِ.. هو حقيقةٌ وهم فقد يخافونهُ
ثم قررتُ أخيراً بعد طول تفكيرٍ، أن أختمَ زيارتى غداً بتمثال الحريةِ،
حيث ألقى الرجلُ المجنون خطبتَه الأخيرةَ هناك.
كانت السادسةُ مساءً، حين قطعتُ تذكرتى وصعدتُ العَبارةَ. وبريشة
الرسام الوقت كان اللون الأصيل مرشوقاً على لوحةِ المدى، وأصابع
السحاب المترامى فوق المحيط.
كان عددُ السياحِ فوقَ الجزيرةِ أكثرَ نسبياً من المُعتادِ فى غيرِ عطلةِ
نهايةِ الأسبوعِ. رجحتُ ذلك للذى حدثَ هنا قبل أيامٍ. وخصوصاً كان
معظمُهم يتمركزون، ويُصورون فى مكانٍ واحدٍ.. هو المكانُ الذى ألقى
فيهِ المجنون خطبتَهِ، كما كان واضحاً ذلك اليوم فى التلفاز.
أخذت أتجولُ فى الجزيزة. أشعلتُ سجارةً وأنا أقفُ على العشبِ
الأخضر المترامى تحتَ أقدامِ تمثالِ الفتاةِ الضخمِ. رَنوتُ إليها وهى
ترفعُ شعلةَ الحريةِ مخترقةً صدرَ السماءِ. والسحبُ المِكحالةِ بالمُبردِ
الشفقِ تمرُ بالقربِ منهُ، تذكرتُ الرجلَ المجنون حين قال هنا فى نفس
المكانِ:
لا تزالُ الإنسانيةُ مرحلةً لم تصلوها بعدُ يا سادتى، حتى ولو »
أنتجتم أكثرَ قيمَها رفعةً، وتجسيداً لها نحتم تمثالا لا يبادلُ طفلاً يمرُ
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
155
على الطريق الابتسامةَ، كهذا الذى أقفُ على قاعدتهِ الآن، وأنتم هنا
.« ! لتزوروه
تذكرتُ الجماهيرَ التى هتفت فى آخر ندوةٍ لهُ فى السودان:
.« نريدُ الرجلَ المجنون، نريدُ الرجلَ المجنون »
مشهدُ العاشقين، اللذين يحملان صورتَهِ تحت إيفل تتبادر أمامى..
أحسستُ فى مكانٍ ما أن الرجلَ المجنون قد رآهم جميعاً عندما كان
يقف هناك.. سائقَ الحافلةِ الذى أخرجهُ من جامعةِ الخرطوم، الرجلَ
العجوز الذى كلمه عن قصةِ حبهِ فى الباص أثناء طريقهِ إلى مُتحفِ
اللوفر فى باريس، الطفلَ ماسحَ الأحذيةِ فى الخرطوم، وجوه فرقةِ
عازفي الشوارع فى الشانزليزيه، بائعَ زهورِ غابات بولونيا البرية الذى
قال لهُ:
!.« لا أعرفك أيها الغريبُ ولكنى قد أحببتُك »
قطع شرودى صوتُ رجلٍ بقربى يستأذننى ولاعةَ سجائر، مددتُها لهُ
بابتسامةٍ، فقال لى وهو يشعلُ سجارته:
هناك القليلون فى هذا العالم الذين فهموا الرجلَ المجنون، »
.« ! وأعتقدُ أن تلك الفتاةِ هى إحدى هؤلاء القليلين
ثم أشارَ بأصبعهِ إلى فتاةٍ شقراء تسيرُ جهةَ اليخت الواقفِ على
المرسى فى طرفِ الجزيرة.. أمعنتُ النظرَ فيها وهى تسيرُ فكأنى
156
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
أعرفها.. وقفتْ مكانَها فجأةً ونظرتْ إلى التمثالِ لوهلة.. ومضت.
قلتُ بصوتٍ مسموعٍ. .« ! يا إلهى »
كررتُ نفسَ المفردةِ ، وأنا أسيرُ ببطءٍ ناحيةَ اليختِ الذى شقَّ صدرَ
المحيط مُغادراً.. سألنى الرجلُ مُتعجباً إن كنتُ أعرِف الفتاةَ؟.
! .« لا .. لا أعرفها »
بذا أجبتهُ ثم أخذتُ منهُ ولاعةَ سجائرى وغادرت، لأنهُ أولاً وأخيراً لن
يفهم أبداً، أن تلك الفتاةَ التى غادرتْ الآن، تلك التى خطفها اليخت تواً
من من هذا المرفأ، هى ميشيل نفسها التى قابلَها الرجلُ المجنون فى
بيتزا بينو فى باريس.
وقفتُ على حافة الجزيرة.. وأنا أنظرُ إلى اليختِ الذى يظهرُ من بعيدٍ
كنقطةٍ فى قلبِ المُحيط تبتعد وتبتعد.. لفتَ انتباهى انعكاسُ ظلى
فى الماء يتراقصُ مع الهواء والموج مُحدثاً أشكالاً مُختلفةً..
أمعنتُ النظرَ فى صورتى على الماءِ أكثرَ..
بها شىء مختلفٌ، شيءٌ يتدلى بجانبى لا أحْملهُ حقيقةً.
يبدو كحقيبةٍ ربما أو.. يا إلهى، أو كمُخلاة!.
صاعة 10:50 م. 􀁽 انتهت ال
صيدر رابيتز/ ايوا  الولايات المتحدة 􀀵 مدينة
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..
157
158
صرخ المجنون 􀀷 هكذا..

تم عمل هذا الموقع بواسطة